بين الكرم والبخل

TT

سألني أحد القراء عن حقيقة ما ذكرته عن المجاعات التي اجتاحت العالم العربي وجعلت الناس يأكلون أطفالهم. أعتذر عن عجزي عن التحقق من ذلك كما هو الحال بالنسبة لمعظم وقائع تاريخنا العربي. بيد أنني أضيف إلى ذلك ما قرأته أيضا أن القوم اعتادوا عندما يعمهم القحط أن يهاجروا. وفي مصاعب الهجرة اعتادوا على ترك المرضى والضعفاء والمقعدين وراءهم بدون معيل ولا زاد.

من أول نتائج الفقر والجوع، نشوء الكرم والبخل. ويبدو شيء من الشذوذ في ترابط هذين النقيضين، ولكنهما نتيجتان أساسيتان للتعامل مع القحط. فمن يجرؤ على اجتياز الصحراء القفراء أو يعيش فيها بدون أحد يغيثه عند الحاجة. وحول هذه الحاجة نسجت حكايات الكرم عن حاتم الطائي وقيس بن سعد، وسواهما من مشاهير الكرماء.

الكرم صنو الحاجة، ويزول بانتفائها. تجلى ذلك بأبشع صوره في حياتنا المعاصرة التي ارتبطت بالكسب والمنفعة. كثيرا ما دعتني بعض الدول العربية ككاتب وصحافي فبالغت في إكرامي وأغرقتني بالهدايا، ثم توقفت عن ذلك بعد أن اكتشفوا أنني لا أنفعها بشيء. وكذا دأب الطامحون من فتيان وحسان فصاحبوني وأغرقوني بكرمهم، اعتقادا بأن لي مكانتي في عالم الصحافة ثم أسرعوا فهجروني حالما خيبتهم في طموحهم وتطلعاتهم.

الكرم العربي بات يلوح للكثيرين أنه خدعة. ولكنك تجد هذا الكرم الحقيقي عند الفقراء والبسطاء. كثيرا ما أتصور أن سبب فقرهم هو كرمهم وسماحة خلقهم. سمعنا الكثير من ذلك، ولكن كل ما قرأته يتلاشى أمام حكاية فطومة العمية التي التقيتها في نواحي المحمودية.

اعتدت على الطواف على دراجة هوائية مع صديقي ناجي بن حنانش في تلك النواحي الفقيرة من العراق. قلما أخذنا معنا أي زاد أو شراب. كلما شعرنا بالعطش أو الجوع، اقتربنا من بيت فلاح بسيط ونادينا: «السلام عليكم يا أهل البيت. ممكن الله يحفظكم تعطونا شوية ماي. عطشانين»! يردون التحية ويخرجون إلينا بشيء من اللبن وأحيانا مع شيء من التمر أو الخبز. كثيرا ما دعونا للجلوس فيأتوننا بغداء كامل.

كذا فعلنا مع هذا البيت الخرب. خرجت إلينا امرأة عجوز. «هلا، هلا أولادي، تفضلوا اقعدوا..». أجلستنا على حصيرة وذهبت. ذهبت واختفت لنحو نصف ساعة. تعجبنا من أمرها وهممنا بالانصراف. ولكننا سمعنا صوت خيل تقترب. نزل رجلان وبادرا لتحيتنا وانضما إلينا. تجاذبنا الحديث معهما. بعد قليل نادت عليهما فجاءا منها بوجبة دجاج ورز وخبز. «تفضلوا يا شباب»! أكلنا وشبعنا وشربنا الشاي. شكرناهم وهممنا بالانصراف. قالوا «يا الله نمشي سوا. انتو على حصان الحديد وإحنا على خيلنا». ازددنا عجبا. أليس هذا بيتكما؟ نظرا في وجهنا ثم قالا: «ما تعرفون؟ هذي خرابة فطومة العمية. العجوز اللي شفتوها. نادت علينا حتى نقعد نتسامر وياكم بينما تحضر الأكل». صعقنا لسماع ذلك. هذه العجوز الفقيرة الضريرة تذبح لنا دجاجتها وتأتي بضيوف لمسامرتنا! هممنا بدفع شيء لها. «أعوذ بالله! ما تعملون هذا. راح تخربون عليها سعادتها»!

www.kishtainiat.blogspot.com