دينامية أميركية جديدة حول إيران

TT

منذ الثورة الإيرانية الإسلامية عام 1979 لم تتوقف الحركية الأميركية حول بلاد فارس. ففيما كان الإمام الخميني يفرض الحكومة الإسلامية في بلاده، كان يحتفظ أيضا بالرهائن الأميركيين في السفارة الأميركية في طهران. وكانت الولايات المتحدة الأميركية تبدأ مشروع دعم المجاهدين بعد غزو الدب السوفياتي لأفغانستان.

عام 1980، بدأت الحرب العراقية ـ الإيرانية التي تزامنت مع حرب الجهاد في أفغانستان. كان للولايات المتحدة الأميركية أيضا حركية ودور فيها. ففي تلك الفترة، كانت الاستراتيجية الأميركية الكبرى لمنطقة الخليج تقوم على تظهير العراق كموازن للثورة الإسلامية للحد من تأثيرها في محيطها. حصدت هذه الحرب أكثر من مليون قتيل إيراني، وظلت ذكراها الأليمة العامل الأساسي لتحديد كل السلوك الإيراني لمرحلة ما بعد الحرب. وقد يمكن القول، إن إيران ترسم كل استراتيجياتها اليوم من منظار تلك الحرب.

في الوقت نفسه، كانت حرب الجهاد تستعر أيضا في المحيط الجغرافي المباشر لإيران: أفغانستان.

بعد انتهاء الحرب عام 1988، ظلت الدينامية الأميركية تعمل حول إيران، في أفغانستان وفي العراق، العدوين اللدودين لإيران. في ذلك الوقت، بدأت ملامح الانهيار السوفياتي تظهر على العلن.

عام 1991، غزا الرئيس السابق صدام حسين الكويت، فكانت الحرب عليه من جانب أكبر تحالف في تاريخ الحروب العسكرية. وهنا دارت الحرب في المحيط الإيراني المباشر.

كان لهذه الحرب تأثير كبير في الاستراتيجية الإيرانية. فمن جهة أولى، ضبطت القدرة العراقية داخل العراق. لكن من جهة ثانية، مأسست هذه الحرب الوجود العسكري الغربي، خاصة الأميركي في المحيط الجغرافي المباشر للثورة الإيرانية، وهذا يعتبر خطرا وجوديا على النظام الإيراني.

بعد عامين من الحرب على العراق وتحرير الكويت، تطورت الدينامية الأميركية في المحيط الإيراني لتتظهر كاستراتيجية لها كيانها وأسسها. وتمثلت هذه الاستراتيجية مع الرئيس الأميركي بيل كلينتون، بالاحتواء المزدوج لكل من العراق وإيران، هذا عدا القرار الأميركي بفرض عقويات قاسية على إيران.

بعد كارثة 11 أيلول، تبدلت أميركا كما تبدل العالم. ردت أميركا أول ما ردت على الاعتداء عليها في أفغانستان، أيضا في المحيط الجغرافي الإيراني. ساعدت إيران الولايات المتحدة عبر السماح لها باستعمال أجوائها، كما في تمرير المعلومات حول عناصر من القاعدة. بل ذهبت إيران أبعد من ذلك، بتمرير رسالة للإدارة الأميركية عبر السفير السويسري في طهران، حول استعداد إيران لعقد صفقة كبيرة مع العم سام. وُبخ وقتها السفير السويسري فقط لحمله هذه الرسالة.

عام 2003، كان تغيير النظام في العراق، أيضا في المحيط الجغرافي الإيراني المباشر. تعثرت بعد ذلك أميركا في العراق، لتظهر إيران على أنها الرابح الأكبر من حروب أميركا ردا على 11 أيلول، لأنها تخلصت من عدوين لدودين لها، الطالبان في أفغانستان، وصدام حسين في العراق.

لكن التغيير الذي حصل في المحيط الإيراني، كان قد ثبت القوى الغربية العسكرية في هذا المحيط، لأجل غير مسمى ـ خاصة القوات الأميركية. ففي أفغانستان تنتشر قوات الناتو. وفي العراق، يوجد تحالف من القوى لا تراها إيران إلا من المنظار الأميركي.

ذهب الرئيس بوش بعدما وقع الاتفاق الأمني مع العراق، وخلفه الرئيس أوباما الذي أعلن أنه سينفتح على إيران، كما ستكون استراتيجيته حول المحيط الجغرافي الإيراني المباشر مبنية على مقاربتين هما: إيجاد حل لمعضلة أفغانستان، وتسريع الانسحاب من العراق.

وجه أوباما تهنئة مباشرة عبر الفيديو للشعب الإيراني بمناسبة عيد النوروز. تبع التهنئة الأميركية، تهنئة إسرائيلية عبر عنها الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز. فهل من دينامية جديدة، كاستمرار لكل المراحل التي تحدثنا عنها؟

بالطبع هناك دينامية جديدة تقوم على:

* السعي الأميركي للانفتاح على الطالبان في أفغانستان، إن كان عبر باكستان، أو عبر المملكة العربية السعودية. لكن المشكلات الباكستانية الداخلية، أدت إلى تبوؤ السعودية الصدارة في هذه المقاربة.

* في 20 ـ 3 ـ 2009، زار وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي مدينة مزار شريف في أفغانستان، للاحتفال بعيد النوروز. في هذه المدينة، كان الطالبان في العام 1988 قتلوا عشرة دبلوماسيين إيرانيين.

* في الوقت نفسه تسعى أميركا لتسريع سحب جيشها من العراق، لكن عبر تركيا التي كانت قد رفضت عام 2003 السماح للفرقة الأميركية الرابعة الدخول إلى العراق عبر أراضيها، لفتح الجبهة الجنوبية على نظام صدام حسين.

* ينصب هم العرب اليوم على الوحدة والمصالحة، كما على إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، هذا عدا هاجس بعض هذه الدول من تنامي القدرة الإيرانية خاصة بعد التحول الكبير في العراق. وإلا فما معنى تصريح وزير خارجية المملكة السعودية حول التدخل الإيراني في الشؤون العربية، وضرورة اتباع إيران الطرق القانونية ـ أي عبر الجامعة العربية؟ أيضا دينامية في المحيط الإيراني.

إن كل هذه الديناميات، لم تؤد بعد إلى حل للصراع الإيراني الأميركي. فالانفتاح الأميركي على الطالبان عبر المملكة. قد يعني لإيران إعادة إحياء عدو لدود جديد، لها، لبعض دول آسيا الوسطى، كما لروسيا والهند التي كانت تتحالف مع تحالف الشمال الأفغاني.

وقد يعني أيضا، محاولة الاحتواء لإيران من جديد، كما قد يعتبر كتطمين للعرب حول ضبط النفوذ الإيراني وفتح جبهة جديدة لإلهاء إيران عن العرب.

من هنا كان الرد الإيراني البارد على تهنئة أوباما. فالكلام شيء، واللعبة الجيوبوليتيكية والمصالح شيء آخر. فإيران تريد أفعالا وليس أقوالا. فماذا تريد إيران؟

* تريد إيران اعترافا بالنفوذ الإيراني الإقليمي علنا ودون مواربة.

* إن الحديث عن النفوذ الإقليمي يبدأ حتما بالعراق. تريد إيران عراقا لا يشكل تهديدا لأمنها القومي ـ وهذا شكل هاجسا تاريخيا لإيران يعود إلى زمن غابر. لذلك تريد إيران في العراق حق الفيتو عبر حلفائها، لأي قرار قد يتخذه العراق يضر بمصالحها.

* تريد أيضا، تسريع الانسحاب الأميركي العسكري من العراق. وإذا أرادت التخلي عن النووي، فهذا سيكون بعد تقديم ضمانات ملموسة وحسية وصادقة، إذ إن الوعد الأميركي برفع العقوبات مثلا، هو أمر لا تهتم له إيران كثيرا اليوم.

* وإذا أخذت إيران مطالبها، فهي حتما ستتخلى عن حلفائها من المنظمات كحزب الله وحماس، إذ قد يمكن إيجاد مخارج كثيرة لهؤلاء.

حتى الآن، استهلكت الثورة الإيرانية كلا من الرؤساء الأميركيين التالية أسماؤهم: كارتر، ريغان، بوش الأب، كلينتون، بوش الابن، واليوم هي مع الرئيس أوباما، وذلك لمدة 30 سنة، وتقريبا مع نفس الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران.

يطرح اليوم الرئيس أوباما مقاربة جديدة، قد لا تختلف في الجوهر عن المقاربات السابقة. فهل ستستهلكه إيران أيضا أم لا؟ وإذا كان الجواب لا، فماذا سيقدم لإيران؟ وإذا قدم لإيران شيئا مهما، فكيف سيرضي العرب؟ وكيف سيرضي إسرائيل؟ وكيف سيرضي تركيا العائدة عبر شعار النيو ـ عثمانية؟

* عميد متقاعد في الجيش اللبناني وباحث أكاديمي