«روتانا» سياسية

TT

ثلاثة مواضيع تشغل الساحة الثقافية العربية هذه الأيام، وتشغل بال القراء و«النخبة المثقفة»، وكلها تتعلق بالكواليس والزواريب ولا صلة لها بمتن أو جوهر. فالكل يريد أن يعرف ما الذي دار بين أصدقاء محمود درويش وناشره من نزاعات وخصومات قبل أن يبصر ديوانه الأخير النور. وثمة اهتمام غريب أيضا بتحري ما كان يدور في أروقة «جائزة بوكر العربية» التي أقامت احتفاليتها ووزعت جائزتها مؤخرا. وما يكتب حول هذا الموضوع، أهم بكثير ـ في نظر المهتمين والمتابعين ـ من الروايات التي تمت مكافأتها أو استبعادها من رحمة لجنة التحكيم. والقضية الثالثة تتعلق بـ«بوكر»، لكنها بدأت تنفصل عنها، وتأخذ استقلاليتها، وهي الرواية الفائزة بالجائزة واسمها «عزازيل». ولو استخدم القارئ محركات البحث، لوجد ما يمكن أن يملأ مجلدات ضخام، بمادة لا تقدم نقدا فنيا أو أدبيا للرواية وأسلوبها وروعتها السردية، بقدر ما تتهمها بالتهجم على الكنيسة وسوء الطوية، أو تحاول الدفاع عنها نكاية بالجهة الفلانية. وثمة من جندوا أنفسهم للبحث عن المصدر الذي سرق منه يوسف زيدان روايته، ليكتشف ويفتضح سره. وهذا كله مشروع ومفهوم، لكن اللافت أن الهامش بات يطغى على كل ما عداه، ونكاد لا نرى من القضايا غير قشورها. ففي ديوان درويش الأخير قصائد في مصاف الروائع، واحدة منها قصيدته البديعة «لاعب النرد» التي تستحق وحدها احتفاء منفردا. لكن العيون طارت على «البصبصة» و«النميمة» وحشر الأنف في «القيل والقال» وأهمل الأدب الرفيع لصالح الزائل والزبد العابر. وما يحدث في الثقافة، يكاد يكون مرآة لما يدور في عالم السياسة. ومن تابع القمة العربية الحادية والعشرين في الدوحة، التي جاءت بعد حرب تجزيرية في غزة، ما زال ضحاياها يذرفون الدموع على موتاهم وجرحاهم ويعيشون في الخيام جياعا يرتجفون بردا وصقيعا، لا يصدق أن محور القمة كان بكل بساطة، هل يصل الرئيس عمر البشير إلى الدوحة أم تخطفه المحكمة الجنائية على الطريق؟ ثم جاءت المفاجأة الثانية ليتلهى المئات ممن كلفوا أنفسهم الذهاب إلى القمة، بما قاله الرئيس الليبي معمر القذافي، وما الذي كان يقصده؟ وهل قطر مذنبة أم ضحية؟ ووصل الأمر بأحد المعلقين أن يقف عند نظارة العقيد، ووصف ملابسه وطلته وسحنته، ليخلص إلى ما أسماه الظاهرة «القذافية». وما بين الظاهرة «القذافية» والأعجوبة «البشيرية» طارت القمة، وانهارت معها تمنيات ما يقارب ثلاثمائة مليون عربي، يتابعون الهرج والمرج، ولا يفهمون على ماذا يختلف زعماؤهم؟ ومتى يتصالحون؟ ولأي سبب يتخاصمون؟

ونخشى أن نقول بأن نمو «ظاهرة النمائم والشتائم» باتت تحكم كل ميدان ومجال، وجاءت كتحصيل حاصل لـ«ظاهرة الدسائس» التي سبقتها ومهدت لها. ولهو المثقفين بأخبار شخوص الأدباء والناشرين، بدل الانصراف إلى مضمون ما يكتبونه وما ينشرونه، يشبه، إلى حد كبير، انشغال الزعماء بما يقوله واحدهم عن الآخر في حضوره أو غيابه.

وكنا أيام العز نستخف بالمجلات الفنية، التي تركز على أخبار زواج وطلاق الفنانات، وقصص حبهن وغرامهن، ومكائدهن التي يحكنها لبعضهن البعض في السر والخفاء، ونسخر من انحطاطها. لكن المقارنة اليوم بين هذه المجلات التي اكتسحت الأسواق، في رمشة عين، رغما عن أنف المعترضين، بحجة «ما يطلبه الجمهور» وما تدبجه الصفحات السياسية والثقافية، يبين أن الأولى باتت نموذجا «محببا» مفروضا على الجميع. فالصحف الجادة تجد نفسها ملزمة بأن تتابع ما يدور، وتنقل ما يقال، لا بل وتستنطق المتخاصمين، وربما تحرضهم على الكلام المباح، خوفا من أن تسكت شهرزاد، وتشح الأخبار التي باتت خلوا من الأفكار المفيدة والمثمرة. ففي القمة العربية الأخيرة، وعلى خطورة البنود المطروحة أمامها، بدا في الإعلام، وكأنما مأساة العراق قد اختفت، وموت غزة البطيء لا يزعج أحدا، وضحايا دارفور غير موجودين على الخريطة. والأغرب أن قرارات بشأن المبادرة العربية مفصلية اتخذت، ومواقف من إسرائيل والاستيطان والاستخفاف بالاتفاقات تم الاتفاق عليها، ولم يلتفت إليها أحد.

وإن كنت لا تصدق أن انحدارا كهذا سيحول قناتين من صنف «العربية» و«الجزيرة» إلى ما يشبه «روتانا سياسية» فما عليك سوى أن تتابع وتحكم بنفسك. فما نزال في بداية الطريق والآتي أدهى وأعظم.

فعلى قناة «إل.بي سي»، ظهر السياسي المخضرم ميشال المر مؤخرا، ليتحدث عن الانتخابات، وهو قطب انتخابي كبير. ومرت ساعتان تحدث خلالهما عن خصومه وأصدقائه، وشتم وقذف من لا يعجبونه، ولم يترك سترا مغطى، كما استعرض الأيقونات والأحجبة التي تحرسه من الأشرار والمعادين، دون أن يقول كلمة واحدة عن برنامجه الانتخابي الذي يفترض أن يعود إلى المجلس النيابي وفقا له. وفي نهاية البرنامج، وبعد طول ثرثرة، قال له مقدم البرنامج: بقي لنا دقيقتان من الوقت، لتتحدث خلالهما عن برنامجك الانتخابي وبسرعة، «فلفش» المر في أوراقه مرتبكا، وأخذ يتحدث عن عناوين كثيرة عامة وفضفاضة مثل الاهتمام بالشباب والدفاع عن حقوق المرأة، وتحفيز الوضع الاقتصادي. لكن المقدم سرعان ما قاطعه، قبل أن يكمل تعداده البدائي الذي يؤكد أن الرجل لم يتعب نفسه في التفكير ببرنامج، وقال له مستعجلا: «انتهى الوقت وما بقي لنا إلا أن نشكرك ونودع المشاهدين». فعلا، الوقت يضيق والصدور لا تتسع لكل ما له قيمة ومعنى، والتركيز هو على اللا جدوى. ولا فرق في العمق، مع مطلع القرن الحادي والعشرين عند العرب، بين أخبار هيفاء وهبي، ومحمود درويش. وهذا يدمي القلب، ويدعو لوقفة حداد على روح الأمة.