دبلوماسية القمم ولعبة الأمم

TT

تأتي قمة عربية وتنقضي قمة.. والحالة العربية على حالها، إن لم تصبح أكثر ترديا بين قمة وأخرى. وإذا كان من الإجحاف تحميل القمم العربية مسؤولية تردي الأوضاع العربية، فمن المبالغة أيضا انتظار تقويمها من مؤتمر قمة، دوريا كان أم طارئا، بعد أن خرجت حالة التشرذم العربي عن إطارها المحلي وأصبحت جزءا لا يتجزأ من «لعبة الأمم» على ساحة الشرق الأوسط.

هذا لا يعني التقليل من دور دبلوماسية القمم العربية في توحيد كلمة العرب وتأكيد ثوابتهم القومية، ولكنه يفترض تقديم استقلال القرار العربي على وحدة الكلمة العربية.. وإلى أن يتحقق هذا الاستقلال ستبقى محاور النفوذ الثلاثة الفاعلة حاليا في الشرق الأوسط غير عربية الهوية ولا المصلحة، أي إيران (الساعية إلى بسط هيمنتها على العراق ولبنان)، وإسرائيل (العاملة على منع قيام أي قوة ضاربة عربية)، وتركيا (المتطلعة إلى إحياء النفوذ العثماني ولكن بوجه حضاري).

قد تكون المفارقة الواجب تسجيلها في هذا السياق أنه كلما ازدادت دول الجامعة العربية عددا.. كلما ازداد نفوذها تراجعا في منطقتها. حتى سلاح العرب الدبلوماسي الأمضى، منظمة «أوبك»، فقد مخالبه بعد أن كان، لغاية السبعينات، قادرا على «تركيع» الغرب، كما فعل في أعقاب «حرب تشرين».

إعادة هيمنة العرب على الشرق الأوسط العربي، أصبحت أولى أولويات المرحلة وأكثرها ضرورة. ولأن دبلوماسية القمم العربية، على أهميتها، لم تعد القناة الأنجع لاستعادة العرب نفوذهم المستباح في عالم الأمر الواقع السياسي والعسكري في الشرق الأوسط، أصبح تجاوز الأمر الواقع مرهونا بالخروج عن المألوف في السلوك العربي العام وربما الاقتداء بتجربتين يمكن اعتبارهما نموذجين ناجحين في إعادة تأكيد الحضور السياسي لأي دولة ترغب بذلك على الساحتين الإقليمية والدولية:

ـ التجربة الأولى يمكن استلهامها من دول أوروبا الغربية التي كادت تفقد كلمتها المسموعة في عهد الاستقطاب الدولي الثنائي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.. لو لم تسارع إلى تجييش إمكاناتها الاقتصادية والنقدية والاستراتيجية في إطار مؤسساتي واحد هو الاتحاد الأوروبي، لتصبح كتلة دولية يحسب حسابها في استراتيجيات واشنطن وموسكو وبكين، وقوة نقدية تضارب الدولار على موقعه كعملة الاحتياط العالمية. إذا كانت الدول الأوروبية التي فرقتها خلافات سياسية ودينية وتراثية مزمنة، ومزقتها عقود طويلة من الحروب الدامية، استطاعت تجاوز عقد التاريخ والهوية لتثبت أقدامها في عالم لا مكان فيه إلا للأقوياء.. فهل يصعب على دول توحدها اللغة والحضارة والمعتقد أن تفصل اقتصادها واستراتيجياتها الدفاعية عن خلافاتها السياسية لتحقق نقلة نوعية في بنية وحدتها، تقوم على حد أدنى من الكونفدرالية، بحيث تصبح كتلة إقليمية توازي الاتحاد الأوروبي «وجودا» في عالم اليوم؟

ـ أما التجربة الثانية فهي، مع الأسف، المقاربة التي اعتمدتها كل من كوريا الشمالية وإيران في تقديم أوراق اعتمادهما للمجتمع الدولي كدول مؤثرة على ساحتها الإقليمية أولا، والدولية ثانيا. مما يعني أنه يكفي لدولة عربية واحدة تملك الإمكانات المادية المطلوبة ـ وما أكثر هذه الدول ـ أن تخرج عن ذهنية «الرضا والتسليم» بالأمر الواقع في الشرق الأوسط، لتعلن أنها، هي أيضا، بصدد تطوير برنامج نووي لا يهدف، بالضرورة، إلى إنتاج سلاح نووي، ولكن إلى امتلاك التقنية اللازمة لإنتاجها عند الحاجة.. فتعود «الندية» إلى أسلوب تعامل الولايات المتحدة معها مع كل ما يستتبع ذلك من «طاقة سياسية» يمكن توظيفها لتسوية القضية الفلسطينية (وفقا لمبادرة قمة بيروت العربية)، واستطرادا لتصحيح الخلل في ميزان القوى العربية ـ الإسرائيلية، والعربية ـ الإيرانية.

تجربتا كوريا الشمالية وإيران أثبتتا أنه في العلاقات العامة، كما في العلاقات الخاصة، يصح المثل القائل: «الفاجر يأكل مال التاجر».. فإلى متى سيكتفي العرب بالتفرج على من «يأكل» مالهم ويسلب نفوذهم ويستولي على أرضهم دون رادع؟