مؤتمر قمة العشرين.. وعمليات تغيير العالَم

TT

قال رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون، الذي يستضيف مؤتمر قمة العشرين في اجتماعها الثاني لمعالجة الأزمة المالية العالمية: أحياناً تكونُ الكوارث ضروريةً للتغيير! والكوارثُ المعنية في هذا السياق هي الآثار المدمِّرة للأزمة المالية العالمية. فيوم أمس كانت كبرى شركات السيارات الأميركية مخيَّرةً بين أمرين ما فيهما ـ كما يقول المَثَلُ ـ خيرةٌ لمُختار: إمّا إشهار الإفلاس أو التوقُّف عن طلب المساعدة من الحكومة الفيدرالية! وقد سبق ذلك كما هو معروف «تأميمُ» الشركات المالية، والبنوك الكبرى. وقد اكتفى الأوروبيون الكبار حتى الآن بضخ أموالٍ هائلةٍ في شركاتهم وبنوكهم؛ لكنّ الألمان والبريطانيين والفرنسيين يقولون بوضوح إنّ ذلك ما كان كافياً ولا شافياً، لأنّ سائر الجهات المالية والاقتصادية صارت مثل القِربة المخروقة، التي لا تمسكُ ماءً ولا هواءً! وضُرب الروس من جهتين: جهة الخسائر الكبرى في المؤسسات المالية، وجهة انخفاض أسعار البترول والغاز إلى ما دون الثُلُث، والحبْل على الجرَّار. وقد تماسَكَ الصينيون والهنود حتى الآن بسبب قوة صناعاتهم، وطاقات التصدير الهائلة التي يتمتّعون بها، وأنّ الطاقة التي هم في أشدّ الحاجة إليها للصناعات بالذات قد صارت أسعارُها ملائمةً إلى حدٍ كبيرٍ في السوق العالمية. وما أظهرت إيران والدول البترولية العربية جَزَعاً شديداً حتى الآن. لكنّ الضربتين اللتين أصابتا روسيا، أصابتاها أيضاً إلى حدٍ كبير. وما قال المصدِّرون الرئيسيون للطاقة في العالم العربي وإيران كثيراً حتى الآن بشأن آثار الأزمة عليهم؛ لكنّ أرقام البورصات التي تغصُّ بها الشاشاتُ على مدار الساعة، لا تترك شكاً في فظاعة ما حصل عندنا أيضاً. وبغضّ النظر عمّا يقولُهُ هذا الطرف أو ذاك بشاْن آثار الأزمة عليهم؛ فالذي لا شكّ فيه أن بعض الأطراف تملكُ وُفوراتٍ ومدَّخرات تُعينُ على التماسُك في المدى القريب. لكنّ انخفاض أسعار الطاقة لا يتركُ حيلةً لأحد في المدى المتوسِّط، ولا مخرج من هذا المأزق إلاّ بأمرين: انتعاش السوق العالمية بحيث يعود النموّ والتوازُن، وينجم عن ذلك انتعاشُ أسعار سائر السِلَع، ومنها صُنوفُ الطاقة، والمنتجات الصناعية والتكنولوجية الأُخرى.

كيف يمكنُ الوصولُ لذلك؟ هذا هو الذي تختلفُ فيه الآراء، وتتناقضُ بشأن كل مخرجٍ التوقّعات. الخبراء الاقتصاديون الكبار (وبينهم حائزون على جائزة نوبل في الاقتصاد مثل بول كروغمان، المعلِّق المشهور بالنيويورك تايمز) يقترحون الحلَّ الكلاسيكي الجديد ـ إذا صحَّ التعبيرـ وهو حلُّ كينز Keynes المعروف في الثلاثينات من القرن العشرين على أثر الأزمة المالية العالمية التي تركّزت وقتها في الولايات المتحدة وأوروبا: ضخّ الأموال في الأسواق في شتّى الاتجاهات، مع تشديد الرقابة على المؤسسات المالية فيما يشبهُ «الاقتصاد الموجَّه».

والمعروف أنّ هذا الحلَّ أو العلاج يلقى في العادة معارضةً شديدةً من جانب القائلين بليبرالية السوق وحريتها. وهم يشبّهونه بالانقلاب الشيوعي على «الملكية الخاصة» في الاتحاد السوفياتي آنذاك. بيد أنّ «المقاومة» يومَها سُرعان ما ضعُفت لسببين: تعطُّل قوى السوق عن العمل بشكلٍ أُسطوري، والهَول الذي أصاب الفئات الدنيا الفقيرة، بل والفئات المتوسِّطة.

وهذا الحلُّ أو العلاج ما عاد يلقى اعتراضاً جدياً من جانب الاقتصادات الرأسمالية الكبرى والكلاسيكية الآن، كما لم يَلْقَ ذلك في الثلاثينات. لكنّ المشهد العالميَّ مختلفٌ اليومَ اختلافاً جذرياً عنه في الثلاثينات. فهناك قوى اقتصادية كبرى جديدة، كانت في الثلاثينات إمّا خارج النظام الاقتصادي الرأسمالي (مثل الاتحاد السوفياتي)، أو أنها كانت مجرد مستعمرات أو شبه مستعمرات (مثل الصين والهند)، أو أنها ما كانت على الخريطة العالمية للاقتصاد قبل ظهور قوة النفط والغاز (مثل فنزويلا وإيران والبرازيل والدول البترولية العربية).

وهذه القوى الجديدة، وذات الشراكة الوازنة في النظام الاقتصادي العالمي، لا تشاركُ الرأسماليات الغربية التقليدية آراءها في قصْر الحلّ على الأمرين: تعويم الجهات المفلسة، ومدّ الهيئات العالمية مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة الأغذية والزراعة برأسمال ضخم لمساعدة الدول المتعثرة والفقيرة. فهذه الأطراف (وعلى رأسها روسيا والصين) تطالب بالتخلّي عن الطبيعة المقياسية للدولار، واللجوء إلى «سلّة عُمُلات» بينها عُمُلاتُها هي، والتخلّي عن آلية الدول الثماني أو التسع للرقابة والتخطيط والتوجيه، لصالح آليةٍ تحضُرُ فيها عشرون أو ثلاثون دولة، تمثّل الاقتصادات الكبرى والوسطى في العالم. وقد حصل الأمر الثاني من الناحية العملية في اختيار عشرين دولة، وليس الدول الثماني، للنظر في علاجٍ للأزمة الحاضرة. أمّا الأمر الأولُ فيبدو صعباً، لمعارضة الأميركيين والأوروبيين، وتردُّد كلٍ من الهند واليابان والبرازيل في الانضمام إلى روسيا والصين في المطالبة بذلك. لكنْ حتى الدول والاقتصادات المتردِّدة إلى الآن، لا ترى أنّ الإجراءات المؤقتة والكلاسيكية كافية لعدة أسباب؛ أولُها وأهمُّها أنه لا دليلَ على أنّ هذه الأزمة هي مُماثلةٌ للأزمة التي حصلت في ثلاثينات القرن العشرين لأنّ بنية الاقتصاد العالمي المُعاصر مختلفةٌ بالفعل. وثاني تلك الأسباب أنّ الدولار صار عبئاً ويتطلب إنفاقاً عالياً جداً لدعمه بعد تراجُع حجم وإنتاجية الاقتصاد الأميركي من 60% من الاقتصاد العالمي إلى أقلّ من 40%؛ بينما تُيتحُ تلك المقياسية للدولار للأميركيين أن يُعامَلوا كأنهم لا يزالون في الوضْع السابق. وثالثُ تلك الأسباب أنّ التبعية شبه المطلقة من جانب الاقتصادات الصغيرة يضعُها دائماً في موقعٍ ذيليٍ يُخَلِّدُ الفَقْر والجوعَ في العالَم، وأوضحُ دليلٍ على ذلك «الدمار الذي أصاب القطاعات الزراعية في الدول الفقيرة نتيجةَ عولمة السوق وحريته الظاهرة، ومركزيته الفعلية خلال العقدين الماضيين.

على أنّ هذه الصراعات الكبرى الدائرة الآن، وأياً يكن ما تؤولُ إليه، لا ينبغي أن تلْهينا عن التغيير الكبير الذي حصل على مستوى العالَم بالفعل. والتغييرُ المقصودُ ليس اقتصادياً وحسْب؛ بل هو سياسيٌّ واستراتيجيٌّ أيضاً. وأول تلك الآثار: انعدامُ القدرة على اصطناع أو خوض صراعات كبرى، على شاكلة فترة الأوحدية التي استنّتْها الولاياتُ المتحدة في رُبع القرن الأخير. إذ إنّ الإنفاق على الجيوش، وعلى التسلُّح ما عاد مُتوافراً، كما أنّ العالَم المتعدّد القوى ما عاد يسمحُ بذلك.

ولا شكَّ أنّ بنية المؤسسات الدولية سينالُها تغييرٌ سريعٌ (مجلس الأمن مَثَلاً)، باتجاه الإدارة الجماعية للعالَم ليس فيما يتعلق بتحركات الجيوش والأساطيل وحلّ النزاعات فقط؛ بل وفي إدارة الاقتصاد العالمي أيضاً. وهذا الأمر كما ينطبقُ على الولايات المتحدة، ينطبق أيضاً على خصومها ومنافسيها.

والاحتمالُ الآخر الكبير أن تزداد الفوضى ويتصاعد الإرهاب (والفوضى أكثر من الإرهاب) مع تعاظُم الفقر والمجاعات، وما نال وينال البيئة في العالَم والتغيرات المناخية، والتي تؤثّر جميعاً على قدرات الحياة والانضباط وفُرَص العيش الآمِن والرخيّ. والاحتمالُ الثالثُ، والذي يبدو مُعاكساً للاحتمال الثاني، لكنه ليس كذلك؛ يتمثّل في سنوح الفُرَص للدخول في حلولٍ للنزاعات المستعصية في العالَم نتيجةَ القطبية أو نتيجةَ الحرب الباردة السابقة. ومن بين تلك النزاعات: صراعات ومذابح منطقة البحيرات في إفريقيا، والصراع العربي/ الإسرائيلي. ويرجعُ ذلك لأمرين اثنين: أنّ الدول الكبرى ما عاد من مصالحتها رعاية النزاع أو تأجيجه بسبب تكلفته المالية والاستراتيجية، ولأنّ سائر الأطراف (وبالتأهُّل أو بالكفاءة)، ومنها الطرفان الإفريقي والعربي، ستكونُ لها كلمتُها في صَون مصالحها، وحفظ استقرارها، لكفّ عادية العدوان للجهتين، أي حفظ المصالح، وصَون الاستقرار. ووجود السعودية بين دول قمة العشرين من بين أوائل الإشارات لذلك.

كان المؤرّخ والاستراتيجي الأميركي بول كنيدي يقول: إنّ الإمبراطوريات الكبرى انهارت بسبب العجزين: الإداري/العسكري، والمالي. وقد أُضيف لذلك اليومَ: أنّ الضرر النازل بشعوب الدول الغازية لن يقلَّ عن الضرر النازل بشعوب الدول المغزوَّة! وفي عودةٍ إلى الكوارث المولِّدة للتغيير بحسب تعبير رئيس الوزراء البريطاني؛ فإنّ رئيس وزراء لبنان فؤاد السنيورة كرر في مناسباتٍ كثيرةٍ في السنوات الأخيرة: بالإلحاح والكفاءة نستطيعُ أن نستولدَ من المشكلة الفُرصة!