هل تتحول الجامعة العربية إلى ناد ثقافي؟

TT

أرثي لحال السيد عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية عندما أتابع مؤتمراته الصحافية إثر انتهاء القمم العربية. فالرجل لا يرضى بعباءة الموظف المأمور ولا بلباقة الدبلوماسي المحترف، ولذا يحرص على أن يظهر وجه الزعامة السياسية وحماس المناضل المسكون بالهم القومي. ولذا يجتهد بكل ما أوتي من براعة بيان في أن يجد الإيجابي والجديد والمشجع في قرارات القمم المتشابهة في روتينيتها ورتابتها.

وكان على الرجل الذي يهدد في لحظات الامتعاض واليأس بالاستقالة أن يدرك أن النظام العربي المتمحور حول مؤسسة الجامعة انهار بالفعل ولم يعد له من الدور إلا التنفيس عن شعور عام بالذنب والعجز عن تحقيق الهدف الأسمى الذي وضعت له الجامعة قبل أربع وستين سنة، أي وحدة العرب واندماجهم.

كان المأزق واضحا منذ مطلع التسعينات عندما بدا من الجلي أن الجامعة لم تعد تصلح حتى لتنظيم وإدارة الاختلاف العربي، بل برز اتجاه قوي بعد كارثة احتلال الكويت لإعادة النظر في فكرة المشروع الاندماجي العربي نفسه. ولقد تبلور أوانها اتجاهان متمايزان، ذهب أولهما إلى ضرورة الفصل بين وحدة الانتماء الثقافي الموضوعية وما تحمل (بتشديد الميم) من مقتضيات سياسية، وذهب الاتجاه الثاني إلى ضرورة كسر منطق التكتل القومي من منطلق المصالح الاقتصادية والإستراتيجية الواسعة التي تفرض أنماطا جديدة من الشراكة خارج الحيز العربي الضيق.

فبالنسبة للاتجاه الأول، ليست عوائق الاندماج العربي بالظرفية، ناتجة عن تقصير الحكام أو مؤامرات القوى الدولية، بل هي موضوعية ناتجة عن مثالية الحلم القومي الذي يقوم على استنتاج زائف بحتمية التوحد السياسي نتيجة لوحدة التاريخ والثقافة وكثافة الوعي. ومن هذا المنظور يمكن القول إن حالة العرب أقرب للفضاء اللاتيني الأميركي من حالة الكيانات الأوروبية التي حققت وحدتها في القرن التاسع عشر بعد فترات تمزق وتشتت (مثل بروسيا وإيطاليا).

وبالنسبة للاتجاه الثاني، لئن كان المثال الاندماجي لا يزال مطلبا ملحا، بل إنه غدا أكثر أهمية من قبل، إلا أن مرجعية التكتل قد انتقلت من السجل القومي إلى السجل الاقتصادي بحسب منطق العولمة وما يرتبط بها من هويات إقليمية وكونية. وفق هذا التصور، تبلور أوانها مشروعان قيل حولهما الكثير هما: مشروع الشراكة الشرق أوسطية ومشروع الاندماج المتوسطي (مسار برشلونة).

صحيح أن الموقف الأول ظل حبيس دائرة فكرية محدودة، كما أن الموقف الثاني تراجع وانحسر إثر انتكاسة مسلسل السلام الشرق أوسطي. بيد أن حقائق ثلاثا أضحت بادية العيان هي: حاجة الايدولوجيا القومية إلى النقد الذاتي والتجدد والمراجعة الجذرية، وضرورة إصلاح ومراجعة النظام المؤسسي العربي الذي كثرت هيئاته واتسعت لتشمل كل المجالات والقطاعات دون كبير جدوى، وإعادة بناء العلاقة بالنظام الدولي الجديد الذي تغيرت توازناته وهياكله وتبدلت مفاهيمه المرجعية.

وإذا كان الجهد الأول منوطا بالمفكرين والكتاب العرب، فإن الجهدين الأخيرين من مسؤوليات الساسة وصناع القرار. بذل رجال الثقافة والنظر مجهودا يستحق التقدير وإن لم يكن كافيا (تخصص مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بنشر أغلب المحاولات التي كتبت في هذا المنحى) ورفع الساسة شعار الإصلاح وإعادة البناء، فعملوا على مأسسة القمة العربية وأطلقوا مشاريع طموحة من قبيل السوق الاقتصادية المشتركة واتفاقية الدفاع المشتركة ووافقوا الأمين العام الجديد في سعيه الطموح لإصلاح الجامعة.. بيد أن هذه الخطوات ظلت محدودة، هشة التأثير والفاعلية لأسباب بديهية لا تحتاج للقول المسهب والتفصيل الممل.

بل إن العمل العربي المشترك تركز في السنوات الثمان الأخيرة على العمل الثقافي والإعلامي، بحيث تحول نشاط الأمانة العامة للجامعة إلى الحوارات مع الحضارات والثقافات الأخرى (مما سحب البساط عن منظمة الثقافة العربية التي دخلت في حالة احتضار طويلة منذ نهاية الثمانينات).

وتلك مكاسب تحسب بدون شك للسيد عمرو موسى التي أرادها أضعف الإيمان عندما عز مطلب إصلاح الجامعة وإعادة بناء العمل العربي المشترك. وما هو باد للعيان اليوم هو أن الجامعة هي في طور الانتقال إلى نمط من المنظمة الثقافية للدول الناطقة باللغة العربية (إثر ضم جزر القمر والصومال وجيبوتي بالأمس وربما تشاد والسنغال في المستقبل) بعد أن أخفق مشروعها السياسي وانتكس طموحها الاندماجي.