لبنانيو النيل

TT

وضعت مؤلفات كثيرة عن هجرة اللبنانيين الكبرى إلى مصر في منتصف القرن التاسع عشر بأقلام مصرية أو لبنانية. وقد دارت معظم هذه المؤلفات حول الشخصيات الصحافية والأدبية والفنية. وعالجت مؤلفات قليلة أو نادرة فئة الصناعيين والتجار والعاملين العاديين. وربما كان ذلك طبيعياً، لأن كتّاب السِيَر يلحقون عادة بذوي الأسماء اللامعة والبراقة. آخر هذه الكتب ما وضعه الأستاذ فارس يوواكيم بعنوان «نضال الأرز في وادي النيل: لبنانيون في مصر» عن دار «الفارابي». كنت أدعي لنفسي أنني من الذين تابعوا هذا الموضوع إلى أقصى حد ممكن، خصوصاً ما وضعه مؤرخون مثل الدكتور مسعود ضاهر، أو الراحل يونان لبيب رزق، أو الأستاذ وديع فلسطين، أو الدكتور لويس عوض، لكنني عثرت على إضافات كثيرة وتصحيحات كثيرة في مؤلف الأستاذ فارس يوواكيم، الذي هو بدوره خليط لبناني – مصري، أو بالأحرى من الفريق الذي عاد إلى لبنان، ولم يستوطن مصر نهائياً وينسى جذوره اللبنانية، كما فعل الألوف ممن اعتبروا أن لبنان هو البداية ومصر هي المنتهى. يحدثنا يوواكيم مثلاً عن أن الشقيقين أمين وسليم عطا الله هما اللذان اكتشفا عبقري الموسيقى العربية سيد درويش. كان يغني السيد العظيم لزملائه العمال؛ فاستمعا إليه وضمّاه إلى فرقتهما؛ وسافر معهما في جولة في بلاد الشام سنة 1908. ويخبرنا أن الكوميدي عبد السلام النابلسي، وهو ابن الفقيه الشيخ عبد الغني النابلسي من شمال لبنان، كان متضلعاً في اللغة العربية، وله في علم النحو كتابات كثيرة، وأن معرفته باللغة وافتتانه بها كانتا بوابته إلى المسرح المصري، ثم إلى السينما. وقد عاد النابلسي في مطلع الستينات للاستقرار في لبنان. واستمر يمثل في أفلام مشتركة، لكنه كان يمضي معظم وقته في المجالس التي تناقش مصادر الكلمات، أو يُلقي الكثير مما حفظ من الشعر العربي، أو يرسل إلى الصحف تعليقاته على بعض الكتّاب، ومنها ما كان يرسله إلى الشاعر انسي الحاج في النهار. وإضافة إلى ثقافته العربية الواسعة، كان الممثل الضاحك المضحك على ثقافة واسعة في اللغة الفرنسية أيضاً.

من كتاب فارس يوواكيم نعرف أيضاً، أو بالأحرى نستخلص، ظاهرة في غاية الطرافة، وهي أن قرية صغيرة في ضواحي بيروت تُدعي كفرشيما أرسلت إلى مصر مؤسسي الأهرام بشارة وسليم تقلا والشيخ إبراهيم اليازجي أحد كبار علماء اللغة، كما أرسلت شبلي الجميل ونجيب الحداد الذي اشترك مع أخيه أمين في إصدار صحيفة «لسان العرب». ويُنسب إليه أنه أول من استخدم كلمة الصحافة بمعناها العصري. وقد نظم الشعر ونشر ديواناً بعنوان «تذكار الصبي»، وعندما حل به المرض وشعر بدنو أجله كتب يرثي نفسه بقصيدة مطلعها: ولّى النجيب، فأرخوا.. قبراً له قد مات مشتاقاً إلى لبنان. ويقول يوواكيم أن اللبناني سليم حموي كان أول من أنشأ مطبوعة عربية في مصر باسم «الكوكب الشرقي». وهي أسبوعية، صدر العدد الأول منها في الإسكندرية في 20 تموز 1873. وبعدها أصدر مجموعة مجلات وصحف يومية، ونقلها إلى القاهرة عام 1885 باسم «الفَلاح»، التي غابت قبيل حلول القرن العشرين.