قراءة في فنجان رجب طيب أردوغان

TT

لو كان ما جرى في تركيا مؤخرا عبارة عن انتخابات نيابية عامة لكان حزب أردوغان تعرض لصدمة أقوى وأشد من التي يعاني منها في هذه المرحلة. فالبطاقة الصفراء التي رفعها الناخب التركي أحدثت دويا وقلقا في صفوف الحزب الحاكم دفعته إلى الإسراع في تقويم أسباب هذا التراجع لاستخلاص الدروس والعبر، كما قال أردوغان وحتى لا يتغير لون البطاقة إلى حمراء تقلب المعادلات رأسا على عقب. «العدالة» كان طبعا الفائز الأول وصاحب الحصة الأكبر في تقاسم البلديات التركية، لكن الأرقام التي ظهرت على شاشات التلفزة عشية الإعلان عن النتائج كانت مخيفة حقا. فلا أحد يقلل وينكر حجم الخدمات وحملات الإصلاح والدور الكبير الذي لعبه أردوغان في تحسين صورة تركيا الإقليمية، لكن كل ذلك لم يكن كافيا كما قالت صناديق الاقتراع التي تنتظر منه المزيد خلال العامين المقبلين حتى لا تحمل له مفاجآت أكثر قلقا وإرباكا. حقيقة أولى ظهرت إلى العلن مع إعلان نتائج الانتخابات المحلية التركية وهي تراجع حزب رجب طيب أردوغان بنسبة لا يستهان بها بعدما كان اعتبارا من عام 2002 تاريخ تفرده في استلام السلطة في صعود دائم لم تنجح الكثير من المحاولات والحبك السياسية في إيقافه. باختصار أردوغان فقد في هذه الانتخابات كما يقال صوت أكثر من مليون ناخب رغم التحاق 6 ملايين جدد باللعبة السياسية في البلاد.

حقيقة ثانية تواجه أردوغان في هذه المرحلة وهي أن حزب العدالة لم يعد بمقدوره التحرك وكأنه الخيار السياسي الوحيد أمام الشعب التركي، حيث سجل حزب الشعب الجمهوري اليساري المعارض انتصارا جزئيا باسترجاع الكثير من الأصوات التي فقدها؛ أولا وتمكنت الأحزاب اليمينية التقليدية من العودة الخجولة كحزب السعادة الإسلامي والحزب الديمقراطي اللذين سيتمكنا من أخذ مكانهما مجددا عل الساحة السياسية في المرحلة المقبلة. ثانيا بإيجاز الأحزاب الصغيرة التي كان أردوغان قد أعلن قبل سنوات عن تفككها واندثارها عادت إلى ساحة اللعب بحصولها على نسبة 20 في المائة من مجموع الأصوات لتكون بذلك بيضة القبان في الانتخابات النيابية المقبلة. حقيقة ثالثة تكشفت أمام الجميع وهي المشاركة الشعبية الواسعة في هذه الانتخابات والتي حطمت رقما قياسيا وصل إلى نسبة 85 في المائة من الإقبال على صناديق الاقتراع، كان للمعارضة التركية فيها حصة الأسد بعد المقاطعة الشعبية التي طاردتها لسنوات طويلة وتسببت بفقدان الأمل في القدرة على استرداد الدور والتأثير في لعبة المعادلات السياسية القائمة.

حقيقة رابعة ظهرت إلى العلن وهي فشل السياسات التي اعتمدت حتى الآن للتأثير على أكراد جنوب شرق تركيا من أجل إبعادهم عن التوجهات والميول العرقية والقومية، بل على العكس جاءت نتائج وحسابات أردوغان مختلفة كليا عما كان يتوقعه ويراهن عليه في تلك المناطق. القوميون الأكراد يقولون إن الوعود التي أعطيت لهم منذ سنوات على طريق التعامل مع مطالبهم بجدية وعملية أهملت أيضا وأن حملات توزيع الهدايا ونقل الأطنان من فحم التدفئة إلى منازل الفقراء قاد إلى نتيجة عكسية وغضبة شعبية عارمة في صفوف الأكراد الذين سجلوا انتصارا كبيرا لن ينسى بهذه السهولة في قلب ديار بكر عاصمة جنوب شرق تركيا.

قيادات «العدالة والتنمية» التي تسعى للتخفيف من حجم الصدمة وتأثيرها السياسي، تطاردها المعارضة وبعض وسائل الإعلام بإصرارهما على أن أردوغان هو الذي أعلنها مواجهة مفتوحة وحولها إلى معركة كسر عظم، عندما قال إنه إذا لم تعجبكم نسبة الـ47 في المائة من الأصوات فاستعدوا لصفعة أقوى ربما تكفي لإيقافكم عند حدكم.

متابعون كثر يرون أن تركيا بعد هذه الانتخابات عادت إلى حالتها الطبيعية فـ«العدالة» لعب ورقة الإجحاف الذي لحق به ومحاولة تهميشه وإبعاده عن السلطة طيلة السنوات الست الأخيرة، لكنه هذه المرة كان متساويا في حظوظه وفرصه في المعركة الانتخابية. أسماء قديمة تعود مجددا إلى الواجهة يتقدمها دولت بهشلي الذي يقود حزب الحركة القومية مفاجأة الانتخابات الأولى بحصوله على 16 في المائة من مجموع الأصوات بعدما كان يتوقع له أن يتراجع إلى الوراء. لكن أسماء جديدة برزت إلى العلن عشية إعلان النتائج بدأت منذ الآن البحث لنفسها عن مكان تحت الشمس السياسية في تركيا وفي طليعتها مرشح اسطنبول لحزب الشعب الجمهوري كمال قلشدار اوغلو والأكاديمي نعمان كورتولموش الذي سجل لحزب السعادة ارتفاعا مميزا في نسبة أصواته، هذا إلى جانب بروز الحزب الديمقراطي مجددا بقيادة سليمان صويلو.

دنيز بيقال زعيم حزب الشعب المعارض قال إن لا انتخابات نيابية مبكرة وعلينا انتظار الموعد الرسمي بعد عامين وهي خطوة تحمل إشارة واضحة في أن المعارضة تحتاج إلى المزيد من الوقت لإنزال ضربة أقوى بحزب العدالة الذي يصر على أنها غيمة سياسية وتعبر. فالناخب يعرف تماما كيف كانت تدار شؤون البلديات قبل عشر سنوات وكيف هي حالتها اليوم مشددين على أن الأزمة الاقتصادية العاصفة والشعارات القومية المتطرفة التي رفعها البعض والأخطاء المرتكبة في اختيار المرشحين، والإعلام الذي يحارب حكومة العدالة منذ أشهر طويلة، أسباب رئيسية قادت إلى هذه النتيجة التي ستعالج في القريب العاجل. ليبراليو تركيا الذين لم يشاءوا تفويت هذه الفرصة لتحميل أردوغان المسؤولية الأكبر في رسالة الإنذار المبكر التي وجهها له الناخب التركي بسبب تردده في تنفيذ الوعود والتعهدات التي قدمها للاتحاد الأوروبي تحت شعار حملة الإصلاحات الدستورية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لم ينفذ منها سوى القليل.

الكثير من خبراء السياسة الأتراك يرون أن القاعدة المعمول بها في تاريخ تركيا السياسي هي أن الحزب الحاكم في البلاد خصوصا إذا ما كان متفردا في السلطة ما ان يبدأ في التراجع حتى يتسارع الانحدار ويفقد الحزب هيمنته على القرار السياسي والحكومي والنيابي، وبالتالي شعبيته الواسعة التي يعتمد عليها في الاحتفاظ بالسلطة فهل ينجح أردوغان في قلب هذه المعادلة؟

* كاتب وأكاديمي تركي