امتناع الأمريكان عن المصطلحات الاستفزازية.. ودعوة إلى (لغة دولية جديدة)

TT

في الولايات المتحدة الأمريكية يدور جدل فكري سياسي حول مصطلحات ومفردات معينة صكتها واستعملتها ـ على نطاق واسع ـ إدارة جورج بوش الابن.

ومن هذه المصطلحات (الحرب على الإرهاب). فقد قالت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون: «إن إدارة أوباما توقفت عن استخدام هذه العبارة، وأعتقد أن ذلك لا يحتاج إلى شرح فهو واضح. فإدارة أوباما لم أسمعها تستخدم هذا التعبير. ولم أتلق أي توجيهات بشأن استخدامها، إلا أنها ببساطة لا تستخدم، نعم لقد توقفت الإدارة عن ذلك في وصف الصراع مع تنظيم القاعدة، أو الإسلام المسلح».

وهذا توجه جيد، من حيث المبدأ، فالحشد الهائل من مصطلحات الإدارة السابقة، وهي مصطلحات مشحونة بالإيحاءات العقدية والفكرية والسياسية المستفزة لمشاعر المسلمين، هذا الحشد من المصطلحات والمفردات: استفز المسلمين واضطرهم إلى كراهية الذين يستعملونها، ولقد ترتب على ذلك، أن صورة الولايات المتحدة قد شاهت في مرآة الرأي العام الإسلامي، نعم هو اتجاه محمود، ذلك الذي يقود إلى العدول عن المفردات المهيجة، التي تزرع البغضاء بين الأمم. بيد أن هيلاري كلينتون، نفسها تورطت ـ في الوقت ذاته ـ في استعمال مفردات خاطئة أيضا مثل مفردة (الإسلام المسلح)!! التي وردت على لسانها.

فليس هناك إسلام مسلح. ذلك أن الإسلام: قال الله قال رسوله، أي الكتاب والسنة، والكتاب كلمات وليس دبابات، والسنة ـ كذلك ـ كلمات وليست صواريخ قصيرة المدى أو بعيدته. ولو صحت هذه المفردة لصحت مفردات (التوراة المسلحة) و(الإنجيل النووي) و(الدستور الأمريكي ذو أسلحة الدمار الشامل).

ولما كانت هذه الأوصاف للتوراة والإنجيل والدستور الأمريكي خاطئة بالمعيار العقلاني والموضوعي والمنهجي، فكذلك مفردة (الإسلام المسلح) هي خاطئة بالمعيار نفسه.

ومما يندرج في هذا السياق: أن دوائر معينة في الإدارة الأمريكية السابقة، قد استعملت مصطلحات مثل (الإسلام الفاشستي) ـ وهو تعبير جرى على لسان الرئيس الأمريكي السابق نفسه ـ و(الإرهاب الإسلامي)، و(الأصولية الإسلامية).

وهذه المصطلحات ليست خاطئة فحسب، بل كاذبة ظالمة أيضا.

أ‌- فالإسلام يستحيل أن يكون فاشستيا، وهو دين عماده الرحمة والسلام واللطف والرفق في كل شيء، ثم إن الفاشستية سلوك دموي نبت في بيئة مسيحية، مما يهيئ المجال لوصف (الفاشستية المسيحية)، ولكن حاشا المسيحية التي جاء بها سيدنا المسيح ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن توصف بذلك، فهي ـ كالإسلام ـ دين رحمة وسلام ولطف ورفق في كل شيء.

ب‌- وفي المسلمين من يمارس الإرهاب، هذا صحيح، بيد أن الإسلام ذاته يستحيل أن يوصف بالإرهاب، كما يستحيل وصف ديانة موسى وعيسى ـ عليهما السلام ـ بذلك، أما تعدية ما يمارسه الأتباع إلى الأديان ذاتها، فهذه قضية ظالمة وخطرة وشديدة الوبال على الذين يسارعون إلى وصف الإسلام بالإرهاب، بسبب أن أتباعا من أتباعه يمارسون الإرهاب، بمعنى أن عليهم أن يتقبلوا ـ مثلا ـ وصف مسيحية عيسى ـ عليه السلام ـ بالنازية والفاشية بحكم أن هتلر وموسوليني كانا مسيحيين.

ت‌- والأصولية الإسلامية مفردة شديدة الخطأ والضلال أيضا، فالتعريف الموجز لهذه المفردة التي نشأت في الغرب هو: الالتزام الحديدي بحرفية النص والجمود المطلق على ذلك، والإصرار الأبدي على قفل باب النظر والاجتهاد والتفكر في النص الديني، وأن من يخالف هذه القيود يعد مهرطقا أو مرتدا.

على حين أن منهج الإسلام على الضد من ذلك:

1) منهج الإسلام يقول ـ بوضوح ـ أن النصي الديني إنما نزل للتفكر فيه: «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون».

2) ومنهج الإسلام يعيب على الذين (لا يتدبرون) النص ويجمدون على (شكليته الحرفية) فحسب: «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها»، فهؤلاء كأنهم وضعوا على عقولهم أقفالا تحول بينهم وبين فهم معاني النص ومضامينه ومقاصده.

3) ومنهج الإسلام يدعو إلى (تجديد) الدين، أي تجديد فهمه، ليس مرة واحدة في العمر، بل يدعو إلى تجديد فهم النص وفق متوالية دورية، فقد قال نبي الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها»

4) ومنهج الإسلام يحفز على (الاجتهاد) في الدين حفزا قويا يحرر ذوي العقول من الخوف من (الخطأ في الاجتهاد)، بل يعلن الإسلام: أن للمخطئ في الاجتهاد أجرا و مثوبة «!!!!»، يقول النبي: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر»!! وثمة فرق هائل بين منهج الإسلام وبين (الجامدين) من أتباعه، كما أن هناك فرقا هائلا بين الجمود الفكري وبين العنف المسلح، فليس كل جامد ينزع منزع العنف.

في ضوء هذا المنهج يترسخ الاقتناع، بل اليقين بأن مصطلح (الأصولية الدينية) أو الإسلامية لا مكان لها ـ البتة ـ في الإسلام، فهي أولا لم تنبت في بيئته، وهي ثانيا نقيض منهجه الداعي إلى التفكر والتدبر في النص الديني، الحافز على تجديد الدين، والاجتهاد فيه دوما، العائب على الجامدين والمقلدين ومتحجري العقل والفكر.

نخلص مما تقدم إلى النتائج التالية:

أولا: الترحيب بالتراجع الأمريكي عن استعمال المفردات الاستفزازية التي أساءت للعلاقة بين أمريكا والعالم الإسلامي، وهو ترحيب مشروط بألا تكون هناك مفردات جديدة بديلة تحمل من السوء والفتنة ما حملته المفردات السابقة. فالعدول عن مفردة الإسلام الفاشستي ـ مثلا ـ يقتضي الكف عن استعمال مفردة (الإسلام المسلح)، التي جرت على لسان هيلاري كلينتون.

ثانيا: التروي الواجب في استعمال المصطلحات وتبنيها. فمن الملاحظ أن إعلاما عربيا يخطف ـ بسرعة ـ المفردات الغربية الخاطئة المسيئة، ويستعملها وكأنها أصبحت (مسلمات منهجية)، والتروي الموضوعي موقف فكري لا يتأتى إلا من خلال (معايير موضوعية) دقيقة، تفكك المصطلحات وتغربلها وتقومها قبل تبنيها وترويجها.

ثالثا: نحن ندعو إلى (لغة دولية جديدة راقية) تستنقذ الكلمات والمصطلحات من الاستعمال الرديء، وتهيئ المناخ الفكري والإعلامي والثقافي والسياسي لعلاقات أبر وأسمى، ومن خصائص هذه اللغة الدولية الجديدة: إعلاء قيمة المضامين، وحذف تعبيرات السباب والتعيير والانتقاص والاتهام والأحكام العامة والتحقير والإثارة والتهييج من الخطاب العالمي، ثم التعاهد على إحياء (الضابط الأخلاقي) للسان والقلم والصورة والرسم، بحيث لا يستخدم أسلوب ما ـ في وسيلة من وسائل الإعلام ـ يزرع البغضاء بين الأمم، ويمكن أن تصاغ هذه المفاهيم في (وثيقة دولية)، وهذه الوثيقة مقصد من مقاصد الإسلام في (الارتقاء بأساليب الخطاب بين البشر).

مقصد: تحمل دلالاته نصوص قرآنية من مثل قول الله عز وجل: «وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن». وقوله سبحانه: «وقولوا للناس حسنا»، ولا ريب في أن (العباد) و(الناس) تنتظم البشر كافة.