السعادة وغرق الأحلام

TT

كنت أقرأ رواية للصديق اللواء المتقاعد عبد الله السعدون ـ عضو مجلس الشورى السعودي. الرواية عنوانها «عشت سعيدا: من الدراجة إلى الطيارة»، وهي عبارة عن السيرة الذاتية للسعدون، على شكل قصص مرحلية، من طفولة اليتم المبكر والفقر والفاقة في قرية الغاط وسط نجد، حتى أصبح قائد سرب حربي، وقائدا لقاعدة الملك فيصل الجوية، ثم قائدا للحرب الإلكترونية. الرواية تعبر عن طفولة بائسة، لكنها مفعمة بالأمل والحب والتفاؤل. تسجل الرواية الفرق بين الفرصة واللا فرصة، بين استغلال فرصة الحياة، وبين ضياع الفرص التي لا تتكرر. الرواية مكتوبة بلغة أدبية مشوقة مليئة بالطرائف والمواقف المضحكة، ولا تخلو من الأقوال والأمثال الشعبية، التي تزخرف أسطرها. وتتميز الرواية بدرجة نادرة من الجرأة في اللغة والعبارات لم نعتدها في رواياتنا، وبالذات حين نكتب سيرنا الذاتية وقصصنا مع الحياة.

أقرأ عادة ونشرة الأخبار مستمرة في البث، تشدني نشرة الأخبار مقاطعة القراءة بخبر فجيعة. أنباء أولية تتحدث عن مقتل عشرة شبان عرب في غرق مركب تهريب كان يقلهم عبر المتوسط إلى شواطئ أوروبا. القارب كان يقل ما يقارب ثلاثمائة حلم شاب (يستحيل معرفة الرقم الحقيقي)، وما زالت الجثث تطفو حتى الآن على الشواطئ الليبية. انتشلت حتى الآن مائة جثة ـ حلم، وباقي أحلامنا سيطفو أو أنه صار طعاما للأسماك المفترسة.

شعرت بقشعريرة ألم ممزوجة بالحزن والغضب والعجز. المأساة تزامنت مع القمة العربية، والقمة تضامنت مع البشير في مواجهة العدالة الدولية. لم يشر البيان الختامي للقمة إلى تحطم الأحلام على عاتي الموج وفي أعالي البحار.

ثلاثمائة حلم عبرت نحو الأمل، ثلاثمائة عنفوان ورجاء، غادرت أعشاشها، وتركت أوطانها، وركبت أهوال البحر القاسي هربا من اللا فرصة، غادروا بلادهم لأنها قتلت فيهم الأمل، هجروا ملاعب الصبا وصدى ضحكات الطفولة، وذكريات التكوين الآدمي الأولى في سبيل الحلم والجري، أو بالأحرى السباحة وراء سراب الأوهام، واللهاث وراء الفرج. لماذا هرب شبابنا من بلادنا؟ لماذا انسلت أحلامنا من بين أصابعنا؟ لماذا هجرتنا أحلامنا؟ ألم نغن ونكرر منذ طابور الصباح: نحن الشباب لنا الغد ومجده المخلد، كيف يغادر شبابنا مغامرين بحياتهم ودون اكتراث للمجهول؟ كيف وصلت الحال بفلذات أكبادنا إلى هذه الحالة من أقسى درجات اليأس العدمي؟

هؤلاء هم صنيعتنا، وهم نتاجنا الذين أرضعناهم حليب الوطن، وحفظناهم حب الوطن من الإيمان عن ظهر قلب، وغرسنا فيهم قدسية التراب وواجب حب الديار. لقد صلوا في مساجدنا، ودرسوا في مدارسنا، ونهلوا من مناهجنا، ورددوا معنا نشيد الصباح:

بلادي وإن جارت علي عزيزة .. وأهلي وإن ضنوا علي كرام

شعرت بخيبة من فقد كل ما يملك، شعرت بإفلاس من خسر كل ماله، شعرت بذنب، شعرت بالمسئولية، شعرت بأننا جميعا سرقنا أمل العيش السعيد من هؤلاء الشباب، وبأننا دفعنا بهم للانتحار الجماعي كالحيتان: الفارق أن الحيتان حين تيأس تنتحر باللجوء لليابسة، وهؤلاء لجأوا للبحر بحثا عن الأمل، فواجهوا الموت.

كم رددنا: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. لقد صادرنا فسحة الأمل، آه! ما أقسى الحياة بلا أمل! لقد وجد هؤلاء الفتية أنفسهم في مواجهة اليأس، فاستداروا بحثا عن فسحة الأمل، ليواجهوا جدار البحر وأهواله.

عدت إلى قراءة رواية السعدون، غلغلت روحي في سطورها استنشاقا لروح التفاؤل والأمل، التي تخضب فقراتها. القمة تشيد بمبادرة أمير الكويت بإنشاء صندوق بملياري دولار للمشاريع الصغيرة: مشاريع أمل، سدود في وجه البحر الذي التهم أحلامنا.

فلنخلق الأمل، ولنعزز الرجاء، ولنحتضن أحلامنا، ولنوقف تكسر الشباب ـ الأحلام على الأمواج المتلاطمة.