البهجة.. شعار متميز في انتخابات الجزائر الرئاسية

TT

يطل مقام الشهيد على العاصمة الجزائرية بأبهة لا مثيل لها. إنه برج إيفل الذي تشاهده من أي مكان في المدينة. يذكرك بالشهداء الذين صنعوا استقلال الجزائر. ولكنه لا يكتفي بذلك، لأنه يتحول في يوم العطلة إلى مكان فعلي للبهجة، حيث تتوافد إليه العائلات لتمضية وقت ممتع، يشارك فيه الأطفال بصخبهم. وكلمة البهجة هنا ليست عفوية، لأنك تجدها في الأسواق؛ اسما لمركز بيع، أو اسما لمقهى، كما تجدها في الحملة الانتخابية شعارا لمرشح، فـ«البهجة تأتي مع عبد العزيز بوتفليقة» كما يقول الملصق الإعلامي الكبير.

الشهداء والبهجة.. الآلام والفرح.. هذان هما القطبان اللذان تنوس بينهما الحياة الجزائرية، قديما في سنوات النضال، وحديثا في سنوات الجمر، التي كادت أن تدمر الجزائر، فأي أثر سنرى لهما بعد هذا الغياب عنها لسنوات؟

نسير في الشوارع من دون مرافقين ومن دون سيارات فارهة. نسير هكذا كما يسير كل الناس العاديين. نلاحظ أول ما نلاحظ نظافة المدينة. نظافة الأرصفة والشوارع، هذه النظافة التي لم تكن كما يجب في بعض السنوات. نشاهد المرأة المحجبة إنما بنسبة تقل مثلا عما في القاهرة أو دمشق. نشاهد الفتيات غير المحجبات وقد خرجن للنزهة، يتنقلن بهدوء وراحة، ومن دون أن نلاحظ أن وضعا ما يقلقهن. نشاهد الشباب يسيرون مجموعات نحو المقهى أو نحو النادي أو نحو مكان للرقص، ولكن نشاهد هنا ما يلفت النظر، هدوء في الحركة وفي السير وفي التنقل، يكاد يلغي مظهر التوتر الذي كان في السابق سمة غالبة لهؤلاء الشباب حين يتجولون، وحتى سمة غالبة للشباب وهم واقفون ومستندون إلى حائط الشارع. كانت وقفة الشارع تلك قبل سنوات، تنبئ بانفجار ما سيحدث. لا يعني هذا أن مشاكل الشباب قد حلت في الجزائر، ولكن تغيرا طرأ على وضعهم، بحيث أصبحوا أكثر ارتياحا مع المحيط من حولهم.

تتلاقى هذه الملاحظات في ذهنك تباعا، وتشعر براحة لا تنغصها إلا زحمة السيارات في الشوارع، والتي هي في الآن نفسه هم من هموم الدولة. كيف يمكن التخفيف من هذا الازدحام؟ يجيبك مسؤول كبير قائلا: مستحيل.. إن شغف الجزائري بامتلاك سيارة يستطيع نسف كل مخطط للدولة من أجل مواجهة مشكلة الازدحام. ويقول: هناك في العالم كله سيارة العائلة، أما هنا في الجزائر، فسعي دؤوب من أجل أن يمتلك كل فرد سيارته الخاصة. ومع ذلك، فثمة مشاريع كبيرة في الجزائر للتعامل مع هذه المشكلة. هناك الطريق الاستراتيجي من الشرق إلى الغرب، من حدود تونس إلى حدود المغرب، وعلى طول الساحل، وقد قارب على الانتهاء. وهناك مشروع المترو في العاصمة والذي سيبدأ العمل به قريبا. وهناك الجسور التي بنيت، وتلك التي ستبنى، لتصل بين الجبال، وتختصر مسافة التنقل والسفر، وتساعد في تقليل نسبة الازدحام.

تظهر أمامك وأنت تتنقل، الدكاكين والمخازن بكل أنواعها، ويلوح في ذهنك سؤال عن الأسعار والغلاء. وحين تسأل عن ذلك، يردك جواب الجميع بما يشبه الشكوى، وهي شكوى يتردد صداها في العواصم العربية من شرقها إلى غربها. شكوى من الغلاء، وشكوى من غياب العلاقة بين الدخل والأسعار. وفي ظل الشكوى من الغلاء، يرد حديث آخر عن الفساد، الفساد الذي يبدأ بالرشوة الصغيرة، والفساد الذي يترجم نفسه أخيرا بالعمولات الكبيرة، ويسأل أحدهم: أين هو القضاء الذي يواجه هؤلاء؟ بينما يقول آخر إن المشكلة أعقد من ذلك، إنها مشكلة اقتصادية كبرى، ولن تجد طريقها للحل إلا إذا نشأ توازن بين الدخل وبين الأسعار. وتستطيع أن تسأل رجال الاقتصاد كم هو صعب إيجاد توازن بين هاتين المسألتين. ولا يخفف من حدة هذه الأسئلة، سوى العمران الكثيف الذي تشاهده من حولك أينما تجولت.

لقد واجهت الجزائر منذ الاستقلال مشكلة الهوية ومشكلة التعريب. كانت هناك ولا تزال معركة مستعرة بين أنصار اللغة العربية وأنصار اللغة الفرنسية، وبدأت حملة التعريب في ظل هذه المشكلة، فأين أصبحت هذه المشكلة الآن؟ يقول لك المسؤولون إنهم تجاوزوا هذه المشكلة. يقولون لك إنه لا يوجد في الجزائر أساتذة وافدون من الخارج لتعليم اللغة العربية، وأن الأساتذة الجزائريين هم الذين يتولون هذه المسألة الآن. يقولون لك إن الطلاب الجزائريين يدرسون ويتعلمون باللغة العربية، ومن دون إهمال تعلم اللغة الأجنبية، والفرنسية في مقدمتها. يقولون لك: لم تعد هناك مشكلة تعريب في الجزائر. وحتى على الصعيد القانوني فإن المسألة قد حسمت، وسجل في الدستور أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة. ولكن هذا لا يعفي من التوقف أمام مسألتين:

الأولى: المسألة المتعلقة باللهجة. فالمواطن قد يعرف العربية كما تعرفها أنت، لكن لهجتين تتصادمان منذ الجملة الأولى، وتجد نفسك مضطرا أحيانا للتوضيح باللغة الفرنسية.

الثانية: مسألة تتعلق بالجانب النفسي للجالسين أو للمتحاورين. فهم يعرفون العربية، وهم قادرون على التكلم بها. ولكنهم نفسيا، يفضلون الحديث بالفرنسية. وهذه مسألة ثقافية بالعمق، لا تعالج إلا على مدى بعيد.

وما تعنيه هاتان المسألتان، أنه ربما يكون التعريب قد أنجز في الجزائر من الناحية الفنية، ولكن تعميم التعريب وتعميقه، يحتاج إلى اجتياز حاجزين: حاجز نفسي، وحاجز ثقافي. ويحتاج التغلب على هذين الحاجزين إلى جهود متواصلة تبذل على مدى زمني طويل، وتشارك بها المؤسسات الثقافية كلها، من الإذاعة إلى التلفزيون إلى المسرح إلى مباريات الخطابة في المدارس، وإلى كل ما له شأن بالحوار وإدارته.

.. وبعد أيام قليلة، يحل يوم الانتخابات الرئاسية، ويتم الإعلان بعدها عن الفائز بمنصب الرئاسة الصعب، وتبدأ فورا مباشرة المشروعات الكبيرة الملقاة على عاتق هذا المنصب. وهنا ترد إلى الذهن فورا مسألة التعمير. تعمير البنية التحتية، من طرق وجسور وأنفاق وسكك حديد ومترو. وهي بنية تحتية تجري الآن بكثافة، لأنها توقفت على مدى سنوات طويلة ماضية، وكاد توقفها أن يعطل الجزائر عن التقدم، بسبب الحاجة إليها، وبسبب ازدياد عدد السكان. وتحاول الجزائر الآن الإسراع بهذه العملية تعويضا لما فاتها في السنوات السابقة.

وترد إلى الذهن أيضا مسألة السكن، والتي بدأت وتضخمت حتى أصبحت من أصعب وأخطر المشكلات التي تواجهها الجزائر. فقد تقرر في فترة معينة، إيقاف بناء المساكن في الجزائر العاصمة مثلا، من أجل وقف الهجرة من الريف إلى المدينة. وكانت النتيجة: استمرار الهجرة، وعدم وجود المنازل اللازمة للسكن، وتضخمت المشكلة إلى حد الحديث عن شباب يتداولون المنزل الواحد، والغرفة الواحدة، فهذا يسكنها في النهار وذاك يسكنها في الليل. أما الآن، فهناك عمل دؤوب وكثيف، لبناء منازل تقدم للمواطنين مجانا (ضمن مواصفات معلنة)، وهناك منازل تبنى عبر الجمعيات التعاونية، وهناك منازل يبنيها الأفراد لسكنهم أو للبيع أو للتأجير، وكل هذا لم يكن موجودا في الجزائر قبل سنوات، ويأمل الكل أن تستطيع هذه المسيرة بلورة حل نهائي لمشكلة السكن.

إن الجزائر تتحرك، وتبني، وتسير إلى الأمام، والرئيس الناجح، هو الذي يستطيع قيادة هذه المسيرة إلى الأمام، أي الرئيس الذي يستطيع أن يجلب معه.. البهجة.