العراق بين انسحابين: قرن آخر ضائع

TT

في الأسبوع الماضي، باشرت القوات البريطانية انسحابها من العراق فيما يعد ثاني انسحاب لها من هذا البلد في غضون أقل من قرن واحد. ما أشبه اليوم بالبارحة، وكأنه التاريخ قد تجمد، وكأننا استهلكنا حوالي القرن في تيهاننا الزماني، الأسئلة التي طرحت إبان إنهاء الاحتلال العسكري الأول هي ذات الأسئلة التي تطرح اليوم، ما هو العراق، ما هي هويته، وكيف سيتعايش أبناؤه في نظام يرضيهم جميعا، وأين سيتجه في صراع القوى العالمي؟ في القرن العشرين ظهرت لهذه الأسئلة أجوبة عديدة جربناها جميعا وانتهينا إلى ما نحن إليه الآن، عدنا إلى نقطة الصفر نفسها لنواجه ذات الأسئلة، والأنكى أننا نكاد نسمع ذات الأجوبة.

سيقول البعض إن الظروف مختلفة وهناك من استفاد من دروس الماضي، فالشيعة استوعبوا الدرس جيدا ولم يرتكبوا ذات الخطأ الذي ارتكبوه بعد ثورة العشرين عندما انكفأوا عن الدولة ومؤسساتها فدفعوا ثمن ذلك قرنا آخر من التهميش، والسنة تعلموا الدرس حينما لم يستسلموا للتيارات التي أرادت أن تقودهم إلى ذات الموقف الذي اتخذه الشيعة إبان الاحتلال الأول فحولوا مقاطعتهم إلى مشاركة فاعلة في النظام السياسي، والاكراد تعلموا الدرس فزحفوا بقوة إلى بغداد للتأثير على قرارها بعد أن كانوا ولزمن طويل متلقين سلبيين لتلك القرارات. قد يكون ذلك صحيحا، ولكن حقيقة أننا ما زلنا نتعاطى مع مستقبلنا من منطلق أننا شيعة وسنة وأكراد، يعني أننا بعد ما يقرب القرن من تأسيس الدولة العراقية عجزنا عن أن نكون امة، ويعني أننا ما زلنا ذلك «الشعب» الذي أشارت الميس بيل مستشرقة الاحتلال الأول الشهيرة يوما إلى انقسامه الاجتماعي الحاد وتفتته، والذي أشار الملك فيصل الأول في قراءة عميقة إلى عدم انسجامه وانقسامه المزمن إلى كتل اجتماعية مغرقة بالتراث القبلي والأسطوري وعاجزة عن استيعاب مفهوم الدولة الحديثة.

لقد كنا شعبا متخلفا آنذاك وليس في ذلك عيب لأنه تخلف موروث عن أكثر من ثمانية قرون منذ انحلال دولة الخلافة الإسلامية في بغداد ثم تحول هذه الأرض إلى مرتع للغزاة من مختلف الأقوام، ثم إلى جغرافيا موبوءة بالأمراض والطواعين وصراع الإمبراطوريات الكبرى، لم يكن هناك نسيج اجتماعي موحد على تلك الجغرافيا، أو حكومة عراقية، أو عراق بالمعنى الذي نفهمه اليوم. لذلك فإن التخلف العراقي في الربع الأول من القرن العشرين لم يكن سوى نتيجة حتمية وطبيعية لذلك التاريخ، ما لم يكن حتميا ولا طبيعيا هو التخلف العراقي في بداية القرن الحادي والعشرين وبعد حوالي 90 عاما من ظهور أول دولة عراقية وأول حكومة عراقية. بالطبع الحديث عن التخلف هنا هو بمعناه النسبي الذي لا يعني أن مستوى التعليم والوعي اليوم هو نفسه ما كان بالأمس، بل يعني أن هناك غيابا مزمنا في البنية الذهنية التحتية الملائمة لإنتاج مشروع عراقي وطني يؤسس لأمة مستوعبة بعقلانية تنوعها الداخلي ولدولة حديثة قائمة على المؤسسات.

لقد كان بإمكان العراق في بداياته التأسيسية أن يطور مثل هذا المشروع بل كان سائرا باتجاهه إلا أنه واجه معضلتين أساسيتين؛ هما العجز عن تطوير هوية وطنية وبالتالي مفهوم ناضج للأمة العراقية يدمج تاريخها المتنوع بحاضرها الجديد كدولة، والثاني انعزال النخب السياسية عن الفضاء الاجتماعي بشكل ترك هذا الفضاء نهبا لهيمنة الديماغوجيين والمغامرين، ولعب الإقليم دورا في إنضاج راديكالية عراقية غير وطنية استغلت غياب معنى واضح للمشروع الوطني وتفتت الوجدان الاجتماعي على رؤى تاريخية متباينة وأحيانا متعارضة، لتنتج مشاريع جديدة مثلت هروبا مريعا إلى الأمام من حيث إنها أرادت الاستيلاء على الدولة لمحاربة الأمة، أرادت أن تحكم العراق لمنع ظهور وطن واضح المعالم ومتبلور الشخصية اسمه العراق، فكانت الايديولوجية الشيوعية الأممية التي تريد حكم «القبائل» وفق منطق الاشتراكية العلمية الذي لم يستوعبه الكثير من الشيوعيين أنفسهم، وكانت البعثية التي انتقت من تاريخ وادي الرافدين حقبة زمنية معينة ادعت أنها القاعدة وكل التاريخ الآخر هو الاستثناء، وادعت معها أن العراق ليس أمة بل «قطرا»، وهو مفهوم اخترعه القوميون العرب لتهشيم أي أسس للدولة وإغلاق الباب أمام أي شرعية لبناء الأمة في العراق، والأخطر من ذلك هو أن هذه الأثواب الايديولوجية ارتدت أثوابا اجتماعية تعبر عن التحول غير المكتمل من البنى ما قبل الحديثة وما صاحبه من تمدن عشوائي قائم على استنساخ الريف داخل المدينة وخلق طبقات اجتماعية جديدة ناقمة على علاقات المدينة ومتطلعة للسلطة بأي ثمن لإعادة الاعتبار الاجتماعي عبر القوة كقيمة أساسية في هذا الجزء من العالم، وكانت ظاهرة صدام حسين هي التعبير الأقصى عن التشويه السياسي ـ الاجتماعي في العراق، المقترن بعشوائية التحول وبتحول مشروع الدولة من مسؤولية بناء الأمة إلى مسؤولية تفتيتها أو إلغائها أو جعلها خارج إطار المفكر به.

اليوم، يعيد صراع القوة نفسه، مؤكدا ما كان مؤكدا، ولكن غير مطروح في السابق، أن أزمة العراق هي أزمة هوية، وانه بدون مشروع وطني عراقي يحمل الجرأة والقدرة الخلاقة على اقتراح هوية لأمة عراقية قابلة للحياة، ربما على غرار المشروع الياباني لبناء الأمة بعد الحرب العالمية الثانية، لا يمكن لمعضلة هذا البلد أن تحل، بل إنها ستظل تنتج إما سيولة مفرطة وصراعا دائما على السلطة والنفوذ بين الهويات الصغرى، أو ديكتاتورية وحشية تعيد تجميد الحراك الاجتماعي لإنتاج سلام مفتعل تديره دولة بوليسية مشروعها الوحيد هو السلطة والبقاء فيها. البريطانيون يغادرون والسؤال هو هل سنعطيهم أو لغيرهم بعد مائة عام أخرى سببا للعودة؟