أنت لك لألأها

TT

تأمل غوته في الطبيعة فلم يجد فيها سوى أسرار مغلقة. وتأمل في الإنسان فوجد فيه مخلوقا ضعيفا غير قادر على السيطرة على هذه الطبيعة المليئة بالغموض والكوامن. كيف تهاجر الطيور ثلاثة آلاف ميل كل عام من دون بوصلة أو خريطة أو معرفة بنشرة الطقس وسرعة الرياح؟ لماذا نعتقد أن الشمس تشرق وتغيب، في حين أنها جامدة لا تشرق ولا تغيب، بل نحن وأرضنا ندور من حولها من دون أن نشعر بذلك؟ لماذا تتغير مواعيد الفصول من قارة إلى قارة؟ في أي نقطة تبدأ الريح وفي أي نقطة يبدأ الموج؟ لماذا تغني الطيور كل على ليلاه؟ لماذا للطيور تغاريد مختلفة مثل لغات الإنسان؟

عبثا تأمل غوته في أقفال الطبيعة ومخازن أسرارها. ولذلك كتب لنا «فاوست» الشخصية الشعرية التي لا تمثل في الحقيقة أحدا بقدر ما تمثله هو. بل بقدر ما تمثل الازدواجية في كل نفس بشرية. وهي أحيانا تبلغ حد المرض والانفصام والتصادم ومنها، والعياذ بالله، إلى الجنون.

تعلمت، قبل أن أقرأ غوته، أن أحب الطبيعة كما هي. وما رآه غوته أسرارا وأقفالا مظلمة تطلعت إليه كما هو، فصولا جمالية بعد أخرى. راقبت الخريف في حديقتي كيف يأتي بطيئا، عاقلا، مؤدبا، مؤذنا بأن الأشجار سوف تصفر، والعرائس سوف تذبل، والأرض سوف تبتل، والطيور سوف تحزن وتضطرب وتتبلبل، والغيوم سوف تطمر بقايا الصيف وتدفع طلائع الشتاء.

وفي حديقتي أراقب الآن كيف يهل الربيع، بطيئا، وعاقلا، وفرحا مثل مواليد الفراشات ومواليد الغنم. يبدأ براعم خجولة على شجر اللوز ثم ورقا صغيرا أخضر على أغصان الخوخ. وفي اليوم التالي تبدو السفرجلة مكتسية كلها بالورق كأنها أمضت الليلة الماضية تتستر. ويتأخر ورق الرمان بكل خبث، إلى أن يتأكد من أن الرياح لن تغافل أحدا بعد اليوم. وتكتسي الأرض كساء واحدا بالأقحوان، أبيض وأصفر. وتشرئب شقائق النعمان بأعناقها بصعوبة وسط هذا التسابق الجماعي في النبت والظهور. ثم يحين موعد الطيور التي هاجرت من جهات أخرى ومعها مفكرتها حول جولات النهار ومخادع الليل. ويهبط الدفء مضيئا ومؤنسا. ولا تبقى سوى سحب قليلة تدل أسراب الطير على مواقعها الجديدة، قبل أن تهاجر بدورها إلى سهول جديدة.

أقرأ «فاوست» وأتساءل: لماذا لم يفكر الهر غوته في ذلك كله ويسلم نفسه للشعر والجمال وألوان المغيب، ويترك الأسئلة لعلماء الطبيعة؟ لماذا تبعد نجمة عن أخرى 50 مليون سنة ضوئية؟ يا سيدي فلتبعد سبعين. أنت لك لألأها.