بين الوهم والحقيقة

TT

كان من المتوقع أن تتضمن التعليقات التي تسلمتها من القراء الكرام بشأن هذه السلسلة عن الجوع والفكاهة، بعض الاعتراضات والتشكيكات فيما ورد فيها. فجل ما أوردته يعود تاريخه إلى نحو 13 قرنا. وبكل صراحة لو أن قارئا سألني عما أكلته يوم أمس لما استطعت أن أتذكر. وأتوقع لو أنني سألت القارئ هذا عما أكله أو شربه يوم أمس، فأكثر احتمال أنه لن يستطيع أن يتذكر.

ولكن من القصص التي خلدت في ذاكرتي منذ أيام الصبا ولم أنسها كما نسيت ما أكلت، الجواب الذي أفاد به الكاتب الفرنسي الكبير أناتول فرانس. سألوه عن استهتاره بالتاريخ وتجاهله له فأجاب مشيرا إلى حادثة مرور وقعت أمامه وهو جالس في شرفة بيته. قال رأيتها بأم عيني ولكنني عندما قرأت ما كتبته الجرائد عنها في اليوم التالي جاء مناقضا كليا لما شاهدته. وأكثر من ذلك لم تتفق الجرائد المختلفة في سردها لما وقع. ناقضت كل واحدة منها الأخريات.

قال، كيف تنتظرون مني أن أصدق ما أقرأه في الكتب عن أحداث وقعت قبل مئات السنين بعد أن رأيت بعيني كيف ضاعت الحقيقة بين ليلة وليلة؟

أثناء دراستي للقانون حدثني أحد أساتذتي عن الحذر في الاستماع لشهادات الشهود. إنهم لا يتقصدون الكذب ولكن دماغ الإنسان سرعان ما يتشوش وتضطرب الذكريات فيه وتضيع بمرور الأيام. منذ أن قرأت ما قاله أناتول فرانس، أخذت أتجاهل التاريخ ولا أقرأ الكتب التاريخية، ناهيك عن مذكرات الساسة والقادة.

الأخ محمد هلالي يطالبني بالدقة. ويتساءل ما دخل صحابة رسول الله في مغامرات أشعب؟ وكتب فارس الطويل من ألمانيا ليفيدني بأن ما أوردته عن عثمان بن عفان وقع لصهيب وليس لعثمان. والسيد أحمد عبد الباري يصححني ويقول إن النبي لم يكن يضحك بل يبتسم فقط. ومن بريطانيا يسألني فهد بدر من أين جئت بهذه المعلومات؟

يا سادتي أؤكد لكم أنني لم أجئ بها من جيبي. وكيف أجرؤ على ذلك والموضوع يتعلق برسول الله وصحابته؟ كل ما ذكرته من معلومات اقتبسته، وعلى الأكثر بالنص، من أمهات الكتب العربية المحترمة. ولكن ماذا أفعل إذا كانت هذه الكتب تناقض بعضها بعضاً؟ من أصدق منهما إذا كان كتاب «الإمتاع والمؤانسة» يسند الحكاية لصهيب و«العقد الفريد» يسندها لعثمان؟

إذا كان أناتول فرانس قد شكا من افتراءات الصحافة الفرنسية فنحن ننتمي إلى أمة تتباهى بأن الشعر ديوان العرب وتعود فتقول أعذب الشعر أكذبه! الحقيقة التي ينبغي أن نضعها نصب أعيننا هي أن السلف تعاملوا مع التاريخ كما لو كان شعرا. الاختلاق فيه إبداع مقبول ومشكور. معظم من شهدوا وقائع تاريخنا كانوا أفرادا أميين، والمتعلم منهم لم يمسك أي دفتر يوميات يدون فيه ما يمر به أو يسمعه. وراحوا يروون الوقائع بعد سنين طويلة، وإثر دخولهم سن الشيخوخة حماكم الله، وربما سن الخرف أيضا وقانا الله منه.

www.kishtainiat.blogspot.com