المقال (المجنّح)

TT

عندما رسم الفنان بيكاسو لوحته الشهيرة (بالوما)، تأكد وترسخ في العالم أن الحمامة هي رمز (السلام) ـ مع أن ذلك ليس صحيحاً على كل حال ـ خصوصاً إذا عرفنا كيف استغلت الحمامة المسكينة في الحروب، وكيف أنها حملت الرسائل لشن الهجمات وقتل الأعداء، واستعملها الفرس والرومان قبل الميلاد من أجل هذا، واستمرت الحمامة من ذلك الوقت إلى الحرب العالمية الثانية، وهي تقوم بهذه المهمة الخطيرة والمدمّرة، وكل من قرأ التاريخ يعرف أن ألمانيا عندما اجتاحت بلجيكا، أنزلت جنوداً مظليين خلف الخطوط الخلفية وقد ربطوا في صدورهم حمائم، بهدف إطلاقها فيما بعد لتعود إلى موطنها حاملة نتائج التجسس، وهذا ما حصل وكان لتلك الرسائل الدور الحاسم في احتلال فرنسا بهذه السرعة الفائقة.

وفعلت جيوش الحلفاء نفس الشيء، بل إنه يوجد الآن نصب في بريطانيا منحوتة عليه أسماء حمامات الزاجل التي أبلت بلاءً حسناً في الحرب، وقد كتب عليه: تحت هذا النصب ترقد رفات الحمامات الشجاعات.

والذي دعاني لكتابة هذا المقال الطائر أو المجنح، هو معرفتي لرجل أوقف حياته وماله ومستقبله للحمام، فليس هناك سوق لبيعه إلاّ وذهب إليه، ولا مباريات سباق إلاّ وحماماته مشتركه به، ولا ناد أو مجلة مختصة إلاّ وطرقها، وإذا ذهبت إلى بيته خيل إليك أنك دخلت برجا أو مفرخة للحمام، حتى شكل الرجل نفسه تقولب مع الأيام وأصبح الآن (سبحان الله) شكله كالطائر، فخشمه يشبه منقار ذكر الحمام (الخالق الناطق)، بل إنه مضى على زواجه أكثر من 30 عاماً بالتمام والكمال مع زوجته العقيم التي لا تنجب، ومع ذلك ظل مشكوراً (راجناً) عليها، ومحافظاً على عشرتها، مقتدياً بذكر الحمام الذي لا يقبل التعدد ولا يرضى بغير أليفته أو زوجته، إلى درجة أنه يشاركها في حضانة البيض وتربية الأفراخ الصغار، وإنني أنصح كل فتاة على وشك الزواج أن تدعو ربها أن يرزقها بزوج يشبه ذكر الحمام لا ذكر الدجاج.

وبقدر ما (يشرشر) السلام والدعة من ذلك الرجل الذي ذكرته، بقدر ما كانت مجموعة من الرجال هم على النقيض منه تماماً.

وإن سألتموني ما هي قصتهم؟! أقولها لكم ما هي:

ففي مرحلة دراستي الثانوية، قدر لي أن أذهب لأداء الامتحان النهائي في مكة، وحيث إنني لا أعرف فيها أحداً غير طالب يدرس في كلية الشريعة في المرحلة النهائية، فقد دعاني للسكن معه هو وزملاؤه في شقة في إحدى العمائر، وفعلا سكنت معهم، ولفت نظري أنهم يتناوبون كل ليلة، ويذهب واحد منهم ويمسك بيده حمامات من النائمات في نوافذ ورفوف المنازل، وحيث إن الحمام هناك آمن، فإنه لا يفزع من امتداد الأيدي عليه، وهذا ما سهل مهمتهم.

وفي كل ليلة يطبخون (الكبسة) على تلك الحمامات، وكنت أنا الوحيد الذي أرفض الأكل معهم، وما أكثر ما تهكموا علي ووصفوني بأبيخ الأوصاف، وسبب امتناعي عن مشاركتهم أنني أعتبر ذلك حراماً، ثم أنني لم ولن آكل حمامة في حياتي، وبدلا من أن أمكث معهم أسبوعين، تركتهم بعد اليوم الرابع، وكان أكلي طوال مكوثي في مكة هو الفول والحلاوة الطحينية والجبن وقليلا من الزيتون مع الخبز والشاهي بالطبع.

ومع أنني أحب وأحترم وأعجب بذوق إخواني أهل مصر، إلاّ أنني أعتذر بفزع وعنف، لكل من يدعوني إلى منزله لآكل عنده (حمام بالفريك).. وإذا كان ولا بد فلا بأس من (الكشري)، وبعدها أحلي (بغزل البنات).

[email protected]