المصالحة العربية ومستقبل عملية السلام في الشرق الأوسط

TT

قبل أيام قليلة، وبالتحديد يوم الثلاثاء السابع والعشرين من ربيع الأول الماضي، وقف خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز مخاطباً مجلس الشورى عند افتتاح أعمال السنة الأولى من دورته الخامسة قائلاً:

«إن التحديات التي تواجه أمتكم سواء على صعيد الوطن أو الأمة العربية والإسلامية تفرض علينا جميعاً يقظةً لا غفلةَ معها، وصلابةً لا تقبلُ الضعف، وصبراً لا يخالجه اليأس، وقبل ذلك إيماناً بالله لا قنوط معه، وكل ذلك يستدعي منا مسؤوليةً مضاعفةً لمواجهة التحديات التي يأخذ بعضها برقاب بعض، فمن عدوانٍ إسرائيليٍّ عاث بالأرض فساداً، إلى خلافٍ فلسطينيٍّ بين الأشقاء هو الأخطر على قضيتنا العادلة من عدوان إسرائيل، يوازيه خلافُ عربُّي وإسلامُّي يَسُرُُّ العدو، ويؤلم الصديق، وفوق هذا كله طموحات عالمية وإقليمية، لكل منها أهدافه المشبوهة».

وأضاف خادم الحرمين الشريفين: «وفي هذا الجو الملبد بالسواد، ترى الشعوبُ العربيةُ مصيرها مهدداً من الآخر، وشعرت بأن آمالها مبعثرة ومستقبلها مظلم. لكن الأمة المؤمنة لا تيأس من رَوْحِ الله، فمن عمق المعاناة والجراح استذكرت تاريخها الحافل بالانتصارات، فانتصرت على يأسها، وانطلقت من سفح الواقع المرير إلى قمة التحدي، متجاوزةً ذاتها، ساعيةً إلى جمع الشمل، وتوحيد الصف والكلمة، وسوف نستمر ـ بإذن الله ـ حتى يزول كل خلاف، مدركين بأن الانتصار لا يتحقق لأمة تحارب نفسها، وأن العالم لا يحترم إلا القويَّ الصابر».

إن الكلماتِ السابقةَ المفعمةَ بالإيمان والمملوءةَ بالعزم والناضحةَ بالأمل تعبرُ عن عمق الإدراك لطبيعة التحديات التي تواجه الأمة والحاجة إلى مواجهتها، وتعبرُ، في الوقت نفسه، عن صدق التوجه الذي طرحه خادم الحرمين الشريفين، في القمة العربية الاقتصادية والاجتماعية والتنموية التي عُقدت في الكويت في شهر محرم الماضي، بضرورة تجاوز الخلافات وتوحيد الصف لمواجهة التحديات المُهدَّدَةِ لأمن المنطقة العربية واستقرارها. وأسفر ذلك الموقف عن تبني دعوته ـ حفظه الله ـ في قمة الدوحة واعتمادها وثيقة توزعت على ستة بنود جاء في ديباجتها: أن الدعوة إلى المصالحة العربية هي من منطلق دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز.

لا حاجة بنا أمام هذا الجمع المطلع على مجريات الأمور إلى تعداد المشكلات العربية وتوصيف طبيعة الخلافات حولها وأسبابها؛ لكن ذلك لا يمنع من القول: إن الخلافات بين الدول في النظام الدولي القائم أمرُ طبيعيُّ، وتسويةَ أمرِ هذه الخلافات أمرُ طبيعيُّ أيضاً. ودولنا العربية ليست استثناءً من هذه القاعدة، إلا إننا للأسف، وعلى مدار عقود من العمل العربي المشترك، لم نُوْجِدْ الآليات المناسبة لحل خلافاتنا، أو على الأقل منع تحول الاختلافات، التي تشهدها العلاقات العربية ـ العربية في سياق النظام الإقليمي العربي، وهي مبررةُ أحياناً، إلى خلافاتٍ ومنازعاتٍ ومشاحناتٍ، غير مبررةٍ في أحيانًٍ كثيرة. لذا، فإن من المحتم علينا تطوير مثل هذه الآليات أو المؤسسات التي تسهم في علاج مواطن الاختلاف في علاقاتنا العربية ـ العربية، وتحصين هذه العلاقات بمنع تأثيراتها السلبية على مجمل أوضاعنا.

والمصالحة العربية الحالية، إذا ما صَفَتْ نوايا الجميع، قد تكون مُدْخَلاً للتوافق على إيجاد آلية تُدارُ من خلالها الاختلافات العربية، ومُدْخَلاً لتطوير مواقف موحدة حول قضايا أساسية تواجهنا، وهي: خلافاتنا مع بعضنا بعضاً والتدخلات الأجنبية الإقليمية والدولية، وقضية السلام في المنطقة. ومن هذه الآليات المقترحة منذ زمن بعيد: محكمة العدل العربية التي لو كانت موجودة لربما وفرنا حلاًّ لقضايا مثلما هو حاصل اليوم في دارفور، بتوفير نمطِ عدالةٍ منبعثٍ من ذاتنا وخالٍ من مؤثرات خارجية لها طموحاتها وأغراضها.

إن الخلافات العربية ـ العربية أصابت الموقف العربي تجاه القضايا المشتركة كافة في الصميم، وأسهمت في الانكشاف الاستراتيجي الذي تعيشه منطقتنا، وأوجدت فراغاً سمح لقوى دولية وإقليمية باستغلاله لتحقيق مآرب خاصة زادت الشرخ في علاقاتنا العربية ـ العربية، مما أبعدنا عن قضايانا الجوهرية. فتداعياتُ الغزوة الأمريكية الباطشة ضد العراق، واحتلالُ إسرائيل الهمجي لفلسطين وأراضٍ سورية ولبنانية، وحربُها ضد لبنان، وضد الشعب الفلسطيني بصفة عامة، وفي غزة بصفة خاصة، واستغلالها من قبل دول إقليمية، وخصوصاً إيران، كانت انعكاساً للخلل في النظام الإقليمي العربي، وفشله في التعامل مع مقدمات هذا الاحتلال وهذه الحروب ونتائجها.

وعليه فالمصالحة العربية ينبغي أن تكون وسيلةً لملء هذا الفراغ الاستراتيجي في هذه المنطقة، وهو فراغُ لا يُسَدُّ بقدرات دولة عربية واحدة، مهما كانت أهميتها، إنما لكل دولة عربية دور في ذلك، والمسؤوليات مشتركة. وفي هذا السياق لا تفوتني الدعوة إلى أنه ينبغي العملُ على استعادة العراق إلى محيطه العربي مهما كانت التحديات، ليعود إلى ممارسة دوره الطبيعي ضمن أمته العربية، ويكون سداً منيعاً أمام التدخل في شؤونه وشؤون أمته.

وهنا، وأنا أشير إلى إيران، لا أجادل في حقها المشروع في العمل على تعزيز مكانتها الإقليمية والدولية، لَكِنَّ هذه المكانةَ يجب ألاَّ تكون على حساب تشجيع التشرذم العربي، واستخدام العوامل الطائفية في تحقيق ذلك، وبحجة دعم الحقوق العربية واستخدام أوضاع المنطقة لتعزيز مواقفها في علاقاتها مع الغرب والولايات المتحدة. إن العرب لا يرغبون في معاداة إيران، وليس من مصلحتهم معاداتها، وهم في الوقت نفسه يرحبون بمواقفها المعلنة بدعم القضية الفلسطينية، لَكِنَّ هذا الدعمَ لا بد أن يكون، كما قال وزيرُ الخارجية السعودي صاحبُ السمو الملكي الأمير سعود الفيصل مؤخراً: «وعلى الرغم من أننا نُقَدَّرُ التأييدَ الإيراني للقضايا العربية، إلا أننا نرى أن هذا التأييد يجب أن يكون عبر بوابة الشرعية العربية، ومنسجماً مع أهدافها ومواقفها، ويعبر عن نصرته لها وليس بديلاً عنها. ونرى في نفس الوقت أن وحدة الصف العربي والفلسطيني من شأنها دعمُ تحقيق هذه الأهداف التي نثق أن إيران تشاركنا فيها، ولا بد من أن يبذل كلانا الجهدَ اللازمَ في هذه المرحلة لضمان استقرار العلاقات وثباتها على أسس التعاون المثمر والاحترام المتبادل».

لقد كانت القضيةُ الفلسطينيةُ وما زالت قضيةَ كلَّ العرب. وقد اتفقوا واختلفوا حولها، وما زالوا يتفقون ويختلفون حولها. إنهم يتفقون حول مركزيتها وعدالتها، ولكنهم دائما يختلفون حول وسائل حلها، سلماً وحرباً. ولو شَرَّحْنَا كُلَّ خليةٍ في جسد كل عربي ومسلم لوجدنا مكوناً أساسياً في الخلايا يحمل اسم فلسطين، ولا أريد أن استعرض هنا تاريخ هذه القضية، ومواقف الدول العربية حولها، وما أدت إليه هذه المواقف من تعقيدات كانت تسهمُ دائماً في تعطيل إيجاد الحل العادل والمناسب لها أو تحرير الأرض، لكنني سأذكر لمحة عن الموقف الذي نحن فيه اليوم وعلاقة ذلك بالمصالحة العربية.

إننا اليوم أمام عمليةِ سلامٍ متعثرةٍ كان الأملُ معقوداً عليها بأن تُتَوَّجَ بتسويةٍ سياسيةٍ تاريخيةٍ عادلةٍ يتفق عليها الفلسطينيون والإسرائيليون تقوم على أساس وجود دولتين مستقلتين في أرض فلسطين وحَلًّ لقضية القدس واللاجئين. وأمامنا خلافُ فلسطيني ـ فلسطيني حول خيارات التسوية يهدَّدُ مستقبلَ القضية برمتها، ومبادرةُ سلامٍ عربيةُ تشكل الحد الأدنى الذي توافقت عليه جميع الدول العربية والسلطة الفلسطينية، وعدوُّ شرسُ ليس مستعداً لدفع استحقاق السلام والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة، ورأيُ عالميُّ رسميُّ وشعبيُّ يتطور باطراد مدركاً عدالة القضية الفلسطينية وضرورة إيجاد حل عادل لها. وهنا علينا شكرُ حماقة وغطرسة قادة إسرائيل الذين بتصرفاتهم الهمجية، وآخرها حرب غزة، ما فتئوا يثبتون للعالم أن الأساس الأخلاقي الذي تَدَّعيه إسرائيل وبررت به وجودها لم يكن موجوداً من الأساس.

إزاء هذا الوضع ليس أمامنا في المرحلة الحالية إلا الاستمرار في خيار السلام الذي قررناه خياراً استراتيجياً لنا، ولَكِنْ علينا إفهامُ إسرائيل والعالم أن هذا الخيار المطروح ليس باقياً إلى الأبد، وأن استمرار دعم الولايات المتحدة لإسرائيل وعدمَ الضغط عليها لدفع استحقاق السلام العادل والشامل لن يحقق السلام في المنطقة، وسيدفعها باتجاه التطرف وعدم الاستقرار، مما يؤدي إلى تَغَيُِر كل الظروف التي تقبل بالسلام. وفي هذا السياق يمكن للمصالحة العربية والمصالحة الفلسطينية أن تكون سبباً في نجاح أي جهد يهدف بالدفع في اتجاه القبول الدولي لهذه المبادرة.

وفي هذا السياق أقول للإخوة الفلسطينيين: سلطةً ومنظماتٍ وأحزاباً، وأنا هنا أتحدث كعربي فلسطيني مُحبًّ ومؤمن بقضيتنا وعدالتها وبشرعية كل الوسائل المستخدمة لاستعادة حقوقنا: آن لنا أن نحسم مواقفنا وأن نتوافق فيما بيننا على الالتزام بمبادئ مبادرة السلام العربية، وأن تكون هي مرجعيتنا حتى في مفاوضاتنا الثنائية مع الإسرائيليين، وأن نتجنب المزايدات فيما بيننا حولها وحول عملية السلام برمتها. وأقول للسلطة الفلسطينية: إن تجربتكم في المفاوضات مع إسرائيل منذ «اتفاقية أوسلو» لم تؤتِ ثمارها أو نتائجها المنطقية لأنكم خضعتم للاستراتيجيات الإسرائيلية التي تُفَرَّغُ الأشياء من مضامينها الحقيقية بالتركيز على الجزئيات وجزئياتها، ومن ثَمَّ، إن كنتم ستأخذون ـ إن أخذتم ـ دولةً، فدولةً سقطاً لا مستقبل لها، ولن يقبلها الشعب الفلسطيني المناضل. إن متطلبات السلام واضحةُ، وشروطَ قيام دولة قابلة للحياة واضحةُ، وأستحضر هنا ذكرى المرحوم أبي عمار، وأذكر أنني كتبت في سجل التعازي في سفارة فلسطين بلندن عنه: «يسعى الرجال بكل ما استطاعوا إلى المجد، أما أنت فقد كان المجد يطاردك ولم يلحق بك».

وهنا أقول للإخوة في حماس والجهاد والمنظمات الأخرى الخارجة عن إطار السلطة الوطنية: إن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار موازين القوة والضعف لدى كل الأطراف. إن قوة الشعب الفلسطيني تكمن في صموده وإبائه وصبره وإيمانه بحقه في الوجود وفي عدالة قضيته. إنه لا يملك الطائرات والدبابات والمدافع والطرادات وأنواع الأسلحة الأخرى، وهذا مصدر ضعفه، بينما عدونا يملك كل أدوات الفتك من أسلحة ثقيلة وخفيفة وكيميائية ونووية، وهو مسنود بأكبر ترسانة عسكرية في العالم وهذا مصدر قوته. وأما مصدر ضعفه فيكمن في احتلاله لشعب، واضطهاده له، وظلمه وغطرسته وتبجحه بقوته، وفقدانه لإنسانيته ومقومات الأخلاق ومبادئها.

ومن هنا فإن المقاومة يجب أن تستغلَّ قوةَ الشعب الفلسطيني وضعفَ العدو الإسرائيلي بالمقاومة المدنية التي أبدعها المرحوم الشهيد أبو جهاد، عندما انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى المجردة من السلاح والمعتمدة على الحجارة والمقاومة المدنية، فتلك كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، وأجبرت إسرائيل على الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية والتفاوض معها. وأضيف: إن إصراركم على إطلاق فُقَيعات البارود التي تسمونها صواريخ بدائية وغير فاعلة إنما يسمح لإسرائيل بقتل الأبرياء منكم متذرعة بأنها تعيش تحت خطر هذه الصواريخ. إنكم مهما استعملتم من سلاح، ولا يتوافر لكم منه سوى البندقية، فإن العدو يتفوق عليكم بما ذكرت سابقاً. فالله ثم بالله وتالله كُفُّوا عن هذا التصرف المضر بالشعب الفلسطيني، واستعينوا بالله ثم بشعبكم الأبي، وأوقفوا سفك دماء الشعب الفلسطيني في السعي لمجدٍ إعلامي هلامي وزائل لا يسمن ولا يغني من جوع، وضعوا أيديكم في يد السلطة الوطنية في سبيل قَوْمَةٍ واحدة مبنية على عدالة قضيتكم وسمو أخلاقكم وعمق إنسانيتكم. تجدون العالم بأسره معكم، بل أقول إن أغلبية الشعب الإسرائيلي، كما حصل في الانتفاضة الأولى، سوف تقف ضد همجية الآلة العسكرية الإسرائيلية وبطشها، وسوف ترغمها، كما أرغمتها سابقاً، على كف ظلمها وجبروتها.

ومسك الختام لكلمتي أقوله في التنويه بما تقوم به المملكة الأردنية الهاشمية بزعامة مليكها جلالة الملك عبد الله الثاني الذي لا يدخر جهداً في خدمة بلاده وخدمة الأمة العربية والإسلامية، بقيادته الرشيدة ودعمه المتواصل لكافة القضايا المصيرية التي تواجه أمتنا، وفي مقدمتها قضية الشعب الفلسطيني والسلام المنشود. وهنا ألفت أنظار الحضور ومن يسمعني إلى لفتة ملكية هاشمية نبعت من جلالته، ألا وهي تكليفه إعادة ترميم وبناء منبر صلاح الدين الأيوبي في المسجد الأقصى على يدي الدكتور المهندس السعودي منور المهيد، عميد كلية الفنون الإسلامية التقليدية، وهذا جزء يسير من الكثير الذي يعمله الملك عبد الله الثاني حفظه الله، وحفظ لنا أردننا الأبي وأمتنا التي هي «خير أمة أخُرجت للناس».

* نص المقال هو محاضرة ألقاها في الجامعة الأردنية بعمان