لبنان: أمام توسيع مفهوم «الذِمّيّة السياسية»

TT

* تأبى الرماح إذا اجتمعنَ تكسُّراً - وإذا افترقن تكسّرَت آحادا

* (يُنسب إلى أكثم بن صيفي)

* من أجمل ما سمعت عن الانتخابات البرلمانية المقرّرة في لبنان يوم 7 يونيو (حزيران) المقبل أنها مواجهة بين «قوى الظلام» (أي قوى«8 آذار») و«قوى سوء التصرف وانعدام الكفاءة» (أي قوى «14 آذار»).

إنه كلام، مع الأسف البالغ، صحيح مئة بالمئة. فمهما حاول الخطاب السياسي عند الجانبين الاقتراب من المثاليات، يلحظ المراقب اللبناني العاقل الواقع المرّ الذي يحاول الطرفان تجاهله أو الهروب منه.

ولنبدأ بـ«14 آذار».

هذا التحالف العريض، لم يكن في يوم من الأيام حزباً، وما كان منتظراً منه أن يكون. بل هو تحالف مَدين بوجوده أصلا لشراسة المخطّط الذي أعدّه «محور طهران ـ دمشق»، ونفّذه الجيل الجديد من القيادة السورية بالتعاون مع السلطة الأمنية اللبنانية التي استنسخها على شاكلته، بطريقة استساغت إهانة الناس وامتهان كراماتهم.. وصولا إلى هدر دم كل من يجد في نفسه الشجاعة للمُساءلة.. ناهيك من الاعتراض.

نعم، ما أوجد تحالف «14 آذار» هو اكتشاف معظم أطرافه أن ما يجمعهم أهم ممّا كان وما زال يفرّقهم، وأن الهدف المشترك العاجل يتمثل بتحرير القرار الوطني من الوصاية الخارجية المفروضة فرضاً عبر سلاح الأمر الواقع، وبناء «دولة المؤسسات» وتعزيزها، والاعتراف بلبنان دولة يقرّر سكانها ـ قبل جيرانها وإخوانها ـ ما تريد .. بدلا من إبقائه ـ بالرغم من أنوف نسبة عالية جداً من مواطنيه ـ ساحة مجابهة مفتوحة وغير متوازنة للابتزاز والمقايضة إلى ما شاء الله.

وبالتالي، لم يكن منتظراً في أي لحظة أن يعتنق أفراد «تيار المستقبل» اليميني اقتصادياً عقيدة «اليسار الديمقراطي»، ولا أن يرفع بيت الكتائب المركزي في الجميزة (بيروت) على حيطانه صور جمال عبد الناصر، ولا أن تعقد «القوات اللبنانية» اجتماعاتها في الحسينيّات، وطبعاً.. لن يصبح المطران بشارة الرّاعي عضواً قيادياً في الحزب التقدمي الاشتراكي.

غير أن هذه الحقيقة تبدو وكأنها غربت عن بال بعض مخطّطي الحملة الانتخابية المشتركة لـ «14 آذار»، كما غربت خلال السنوات الأخيرة عن بال غالبية أقطابها، ولا سيما، أولئك الذين تصوّروا أن اقتراب «خصوم الأمس» منهم يشكّل بالضرورة «فعل ندامة» عمّا سلف، وتراجعاً عن كل المواقف التي آمن بها هذا الفريق أو ذاك عبر تعرّجات تاريخ لبنان السياسي المضطرب.. قبل الاستقلال وبعده.

اليوم، لا يوصف إلا بـ«مهزلة» ما يحصل من زحمة الترشيحات الفردية التي تكاد تزّج أبناء المعسكر الواحد في معارك شرذمة وإلغاء انتحارية وكأنه ليس ثمة أولويات وبرامج مشتركة.. أو مخططات معادية مقابلة.

أيضاً من المؤسف ـ مع الاحترام الواجب للجميع على الصعيد الشخصي ـ عجز القوى الحزبية الزاخرة بالكفاءات عن الابتعاد عن نوازع «عاطفية» الوراثة و«شخصنة» الولاء، وهذا بالذات ما سمح لشخص في مستوى ميشال عون بمهاجمة «العائلات» بأحيائها وأمواتها.. ناسياً ترشيحه صهره وابن أخته ومرؤوسيه العسكريين وحتى أصدقاء مأجوريه.

ثم أليس مستغرباً، أن يلجأ أحد أكبر تنظيمات «14 آذار» لإعلان برنامج اقتصادي يكرّر نغمة الخصخصة المطلقة والاقتصاد الحر، وكأنه الترياق المعيشي الأوحد، خلال أيام معدودات من «قمة العشرين» في لندن التي عقدت لإنقاذ النظام الرأسمالي من نفسه؟ وأين المنطق في العزف على وتر هذا الموضوع الذي يشتّت وحدة «14 آذار» بينما المطلوب اليوم قبل الغد تماسك الصفوف وتضامنها؟

ونصل إلى «8 آذار».. وما أدراك ما «8 آذار»..

السيد حسن نصر الله أعلن، في مطلع الشهر الجاري، أسماء مرشحي «حزب الله» ورسم الخطوط العريضة للمعركة التي يلعب فيها «الحزب» بوضوح دور «الرافعة» و«السند». وبدا السيد حسن حقاً معتدل اللهجة، غير أن القراءة المتمعّنة لما قاله عن استراتيجية «الحزب» وما يسعى إليه مع «حلفائه» وتوابعه تعطي صورة معاكسة تماماً للهجة الاعتدال.

فأولا، يعتبر «الحزب» الذي بدأ نشاطه قبل بضعة عقود كـ«حركة مقاومة» أجمع على دعمها معظم اللبنانيين ـ ليس بينهم «الحليف» العوني، طبعاً ـ أنه اليوم «حزب» بكل معنى الكلمة. وهذا يعني أنه يخوض غمار الصراع السياسي ضمن «معسكر» في وجه «معسكر» آخر. وبكلام أوضح، بغض النظر عمّا يتضمنه قاموس «الحزب» من نعوت لمناوئيه، صار من حق اللبناني الذي قرّر «الحزب» أن يُعاديه ويهزمه اتخاذ موقف مماثل منه إذا استطاع إلى ذلك سبيلا. ثانياً، الكلام المعتدل الذي استخدمه السيد حسن، يتجاهل أن ما يسميّه «المعارضة»، المُمثلة فعلياً في الحكم من رئاسة مجلس النواب إلى أكثر من «الثلث المعطل» في حقائب الحكومة إلى القوة المسلحة الضاربة التي يتقزّم بجوارها الجيش الوطني، كانت في الحقيقة تحكم لبنان على هواها لسنوات.. إلى حين جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ويعرف اللبنانيون جيداً هويتها السياسية وارتباطاتها ومصالحها الإقليمية. ثالثاً، أن «الشراكة» في الحكم وفق منطق «حزب الله»، كما ورد في كلام السيد حسن نصر الله تقوم على أساس «ما لنا لنا وحدنا، وما لكم لنا ولكم». ومن ثَم، فمهما كانت نتيجة الانتخابات المقبلة ستكون «الشراكة الوطنية الحقيقية» التي يتكلّم عنها «الحزب» صيغة حكم أحادي يتعامل مع الفريق الآخر بمسلميه ومسيحييه ـ وليس بمسيحييه فقط ـ وكأنهم «حالة ذِمّية» يجب أن تقبل العيش تحت حماية «المقاومة» المسلحة. رابعاً، بينما يحرص السيد حسن نصر الله على تجنّب الكلام المذهبي الصدامي، فإنه ضمن إطار «التحالف» الذي يبدو حريصاً على تأكيده وتوسيعه مع «العونيين» ومسيحيي «النظام الأمني» السابق، لا يستطيع أن يغسل أيديه من الخطاب التحريضي الطائفي والشخصي الفاقع لبعض حلفائه. وبالتالي، من الصعب على السيد حسن إقناع القاعدة الشعبية السنيّة والمسيحيّة والدرزيّة لـ«14 آذار» أن «حزب الله» يتحفّظ عن هذا الشكل من أشكال التحريض ولا يؤيده .. وذلك تماشياً مع مقولة «السكوت علامة الرضى».

إزاء كل هذه الحقائق، لا تبدو الخيارات الديمقراطية في لبنان واعدة كثيراً. ولكن من قال إن بناء الأوطان مهمة سهلة؟

ألم نتعلم في المدارس أن «الحرية تؤخذ ولا تُعطى؟».