خواطر حول أثرهما الجميل

TT

لا أدري ما هي وجوه المقارنة الأدبية، لكنهما كانا، بالنسبة إليَّ، متشابهين على نحو لا أستطيع تحديده إلا من رؤية شخصية، أو بالأحرى رؤية شخصانية حميمة، مشاعرية، وليس فيها شيء من الموضوعية المفترضة، أو المزعومة في النقد. كان كلاهما من بلد هو أبعد البلدان عن بلدي. واحد، وُلد في سوق الحشيش في بنغازي، وواحد ولد في إحدى قرى النيل. كلاهما هاجر إلى أوروبا ليكمل دراسته. وكلاهما مات مريضا فيها. واحد في جنيف، على ضفاف البحيرة التي أحبها. وواحد في لندن، على ضفاف التيمس الذي أحب. كلاهما تزوج أوروبية. الأول، فنلندية، رُزق منها بأولاد، لكنها بقيت في هلسنكي فيما عاد هو إلى بلده ليهاجر منه. وبقي أولاده في هلسنكي أيضا. وكل ما كانوا يعرفونه عن والدهم، أنه رجل عظيم وجميل وباهر وأن الناس في بلاده تهوى كتاباته. الثاني، تطبعت زوجته بطباعه وطباع بلده وتعلمت كيف ترمي قرنا إضافيا من الشطة على صحن الفول. وأدرك أولاده أن الأب ليس رجلا شهيرا فحسب، بل هو أيضا رجل منخرط، ملتزم، يحب جلدته وبشرته ولا يضايقه شعره الأجعد الذي يبدو مثل عمامة سرية تحت عمامته البيضاء. الأول سألته صاحبة الغرفة التي استأجرها في ألمانيا: «ما هذا الذي على رأسك؟». وقال في أدب جم: «هذا الذي على رأسي يا سيدتي هو شعري». فاعترضت الألمانية البدينة بكل جدية: «لا. لا. هذه مكنسة». فقال ضاحكا في وداعته: «كيف لم أنتبه إلى ذلك كل هذا العمر؟».

كان كلاهما وديعا، على نحو غير مألوف. وكان كلاهما واسع الصدر بلا حدود، ووسيع الآفاق، والثقافة، بلا أي حد. وكان كلاهما ساحر الحضور، آسر الحديث، تعابيره في الكلام في ثراء تعابيره في الكتابة، حماسي وطيب ومحب ومتسامح وقلبه في عينيه الإفريقيتين وفي ضحكته الملازمة، كأنما هو مغنٍّ. وضحكته جوقته. لم أكن أعرف كم أحب الصادق النيهوم إلى أن أدركت أنني بعد ذلك اليوم سوف أذهب إلى جنيف ولن أجلس لأصغي إليه يتحدث في الفلسفة وأريك فروم وسقوط العالم العربي والأدب الألماني المقارن. ولم أكن أعرف كم كنت أحب وأقدر الطيب صالح، إلى أن غاب. ومنذ سنوات وأنا أعيد قراءة كتب الصادق، وأحملها معي بديلا للأدوية وبديلا للأغاني وكشيء من صور العائلة. وقد زادت حمولة حقيبتي بعد غياب الطيب صالح. بلح من بنغازي ومسك من كردفان. العطر الأنبل في ليبيا والسودان.

إلى اللقاء.