الرأسمالية بخير كلما استعارت ماركس

TT

عشت في عصرين اقتصاديين مختلفين. كنت مواطنا اشتراكيا في دولة عبد الناصر الوحدوية، وفي دولة الأسد. ثم ها أنا أمضي نصف عمري في دولة رأسمالية كبرى.

شاهدت انهيار دولة الوحدة، عندما قاد ضباط الطبقة التجارية الدمشقية انقلاب الانفصال (1961) عن مصر عبد الناصر. دمشق التي تصف نفسها بأنها «قلب العروبة النابض»، لم يتحمل قلبها كآبة التجربة الاشتراكية وإلغاء السياسة. بعد غزل قصير مع رأسمالية اليمين الانفصالي العشيرية والإخوانية، عادت سورية إلى اشتراكية التأميم، بعد الانقلاب الناصري/البعثي (1963)، ثم إلى ماركسية صلاح جديد التروتسكية (1966/1970).

احتاج حافظ الأسد إلى نحو عشرين سنة، لإقناع حزبه وضباطه بالتحرر من آيديولوجيا اقتصاد الدولة. فعل ذلك بمهارة، من دون إلغاء شعار الاشتراكية. ساعده على ذلك السقوط المدوِّي للتجربة الاقتصادية السوفيتية.

عشت عصر الكآبة الاقتصادية. لم أدرك فرحة السوريين بامتلاء رفوف المخازن التجارية بالسلع الوطنية والمستوردة. اليوم كل سوري قادر على الشراء، يستطيع أن يقتني سلعته الرأسمالية. كل سوري يملك المال يستطيع أن يمارس حرية التجارة استيرادا وتصديرا. انتعشت الطبقة الاقتصادية الدمشقية والحلبية، من دون أن تفقد الليرة السورية قيمتها في دولة الاقتصاد المختلط، دولة الزواج بين القطاعين العام والخاص.

الجيل السوري القديم ما زال يحن إلى عبد الناصر. لكن لا يريد أن يتذكر كآبة اشتراكيته الماركسية التي قوَّضت تجربته الوحدوية. الجيل السوري الجديد لا يتذكر. لكن يحلم بالعمل. إن لم يجده، فحرية السفر والعمل في دول الخليج متاحة له.

أما أنا، فبعد عيش مستمر في منفاي الرأسمالي منذ أكثر من ثلاثة عقود، أملك الجرأة لكي أصارح القارئ بأني ما زلت اشتراكيا. لم تبهرني بهجة الرأسمالية. إنها «رأسمالية بلا قلب»، كما صارح عامل الكهرباء ليخ واليشا الأوروبيين، في أول زيارة له لباريس رئيسا لبولندا، بعدما حررها من كآبة الاقتصاد الماركسي.

لماذا لست مبهورا؟ السبب بسيط للغاية. إنه الترف الذي لا لزوم له. مجرد نظرة خاطفة إلى ملايين السيارات الخاصة التي تغزو باريس ومدن أوروبا، تجد راكبا واحدا يزحم الطريق. يلوث البيئة بلهاث سيارته السام. السيارة رمز الحرية في أوروبا. لكن باستطاعة الأوروبي الاستغناء عن سيارته. هناك في باريس أكثر من عدة وسائط نقل ليلا نهارا، وبسرعة مذهلة. هناك نوعان من مترو الأنفاق. نوعان من الأوتوبيسات. نوعان من القطارات للضواحي البعيدة، وللريف ولعواصم أوروبا.

ثرثرة واسعة عن تلوث البيئة. لماذا لا تلغي الدولة الرأسمالية السيارة الخاصة؟ لماذا لا تعيد الشاعرية الرومانسية لشوارع باريس وساحاتها العامة التي نجدها في صورها القديمة؟ لماذا تطرد طرق الإسفلت وغابات الاسمنت الخضرة الأوروبية الجميلة؟ لأن الدولة الرأسمالية لا تستطيع الاستغناء عن ملايين العمال الذين «تستعبدهم» صناعة السيارات الضخمة.

الدولة في العالم الاشتراكي الزائل عودت الناس على المترو والباص. مترو موسكو من أجمل متروهات العالم. عندما استورد بوريس يلتسين رأسمالية التسعينات، افتقر الروس. كان لا بد من بوتين ليصنع الازدهار والثراء، وليستعيد الكرامة الوطنية المهدورة، وليحاسب الطغمة الاقتصادية اليهودية التي اشترت مع حاشية يلتسين الفاسدة شركات القطاع العام الضخمة بسعر التراب.

أمسك القضاء الروسي بكبير يهود الطغمة خودوركوفسكي الذي حاول شراء النظام والإعلام بقوة المال. استعاد منه شركات النفط. حاسبه على التهرب من الضرائب. خودوركوفسكي يقبع اليوم في السجن، فيما بعض شركائه الكبار فروا إلى إسرائيل، أو إلى بريطانيا. من أجل ذلك، يبكي الإعلام الغربي الحرية الروسية «المفقودة».

لست ضد «أبناء العمومة». عشت آلام سبع عمليات جراحية في حياتي. بتُّ صديقا للأطباء والجراحين اليهود الذين أجروها لي. «البراغماتية» اليهودية لا تشعرك بغطرسة احتكار العلم والفن والطب والصحافة والتجارة والمصرف والشركة. لا يطل شارون عليك، إلا عندما يثرثر اليهود في السياسة.

في الحرية السياسية التي أتعايش معها. هناك «محرمات» يهودية تحميها الدولة و القانون. لا تستطيع أن تجادل في عدد ضحايا المحرقة النازية، وإلا قد تذهب إلى السجن، أو تفقد عملك وشركتك. تصبح «معاديا للسامية». معزولا لا تجرؤ فتصارح أوباما وبراون وميركل وساركوزي بالمسكوت عنه، بمسئولية دهاقنة رجال المال والأعمال ومدراء الشركات، ومعظمهم من اليهود، عن الأزمة المالية الطاحنة التي يعيشها العالم.

فقد العرب في لمحة عين 2300 مليار دولار في اقتصاد الكازينو، في شركات ومصارف وبورصات وول ستريت ولندن. كان المبلغ يعادل أرباح النفط. كان كافيا لمحو الأمية والفقر وحماية البيئة، في عالم عربي يعيش أزمة العقل المتقشف والمتزمت. لم يشارك عرب أوروبا في التظاهرات الشعبية الغاضبة ضد زعماء الغرب في قممهم الأخيرة. الحرية السياسية تسمح للغاضبين بالاحتجاج على الحرية الاقتصادية الفالتة التي سلبتهم عملهم وبيوتهم، وعوضت وكافأت السالبين، مصارف ورجال أعمال ومال ومدراء مصارف وشركات.

لكن الرأسمالية ما زالت بخير، كلما استعارت أفكار يهودي اسمه كارل ماركس، لإنقاذها من شطارة يهودي آخر محتال اسمه برنارد مادوف الذي أفلس عن 65 مليار دولار، ليست من ماله لكنها مال الضحايا المغفلين الذين عهدوا إليه باستثمار أموالهم، طمعا بفائدة أكبر، بمن فيهم عرب ويهود. لم يوفر مادوف حتى الجمعيات الخيرية اليهودية التي تعنى بفقرائهم.

لم يعد زعماء الرأسمالية الغربية قادرين على إقناع العرب بالتبرع بمزيد من المال، للشركات والمصارف الرأسمالية المفلسة. في قمة العشرين الأخيرة في لندن، طالب الغرب زعماء الدول النامية اقتصاديا، بالتبرع ليس لصناديقهم المفلسة هذه المرة، وإنما لصندوق النقد الدولي، بحجة مساعدة الدول الفقيرة. لست بحاجة إلى ذكاء كبير لتكتشف أن هؤلاء الفقراء هم رجال الفساد والمافيات والسلطة في دول أوروبا الشرقية، وليس أولئك في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. ألم تكن السعودية على حق عندما اشترطت قبل التبرع إعادة بناء هيكلية الصندوق، ورفع نسبة التصويت والمشاركة في مجلس الإدارة؟

عزيزي القارئ، لم أوجع رأسك في تفاصيل وتقنيات الأزمة المالية التي تهز العالم. حسبي أن أقدم بعض الرؤى البسيطة، مطالبا في النهاية العرب بالتوجه إلى الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي، وليس في المضاربة الهوائية بالمال السائل في بورصات ومصارف الأرباح الوهمية.