الرقص مع الشيطان الأمريكي

TT

من «الخط الأحمر» الذي رسمه مسؤولون مصريون في الانفتاح على الحركات الأصولية السياسية إلى «الهرولة» الأمريكية الخضراء باتجاه «المعتدلين» الأصوليين في العالم الإسلامي، بما فيهم جماعة طالبان طبعا، من هذا إلى ذاك يتصاعد دخان الفوضى ليشتبك بضباب المصالح والتفكير المرحلي السريع.. الضحية في هذا كله هو العين الباصرة التي يغشاها دخان الفوضى وضباب المصالح.

تحدثت مصادر مصرية لصحيفة «الشرق الأوسط» الأحد الماضي عن حقيقة ما يقال عن اتصالات السفير المصري بالخرطوم مع حسن الترابي، عرّاب الحركة الإسلامية في السودان، بعد أزمة نظام البشير مع العالم، فشددت المصادر على: «أن الاتصال بين القاهرة وأي من رموز الحركة الإسلامية في السودان، أو غير السودان، (خط أحمر)، لا يمكن أن تتجاوزه تحت أي ظرف».

وعن اتصال مصر الرسمي بحركة حماس الإخوانية بين أنها لـ«لاعتبارات تتعلق بالدور المصري على الساحة الفلسطينية».

وفي الجهة المقابلة نرى الإدارة الأمريكية الحالية، وفي ظل عهد أوباما الحريص جدا، على رسم صورة مغايرة عن أمريكا تلغي صورة بوش، نراها تتحدث عن الحوار مع معتدلي طالبان وعموم الإسلاميين.

هنا يجب ملاحظة شيء مهم، حديث أوباما وأركان إدارته عن التصالح مع العالم الإسلامي واحترام الحضارة الإسلامية، هو شيء إيجابي ويساعد على توفير أجواء الثقة ومعاودة التواصل المرتاح بعيدا عن أجواء التشنج والتخندق الحضاري.

بعبارة أخرى، المضمون الأخلاقي في مثل هذه الرسائل، رائع ومفيد، ويحتاجه كل من يدعو إلى التسامح والحوار والاقتراض الثقافي المتبادل، غير أنه حينما نلج إلى التفاصيل أكثر، تفاصيل السياسة والمفاهيم التي يراد ترسيخها في المجتمعات، فإننا نقع في حالة سوريالة من التناقض الغريب..

كيف؟

الحديث المحموم عن وجوب إنشاء حوار وتواصل مع الإسلاميين، بمثال هذه الكثافة التي نراها الآن لدى كتاب رأي وبعض المستشارين العرب في أمور الإسلام والمسلمين لدى دوائر البحث والقرار الأمريكية، لا يبشر بوجود حصافة وأناة في التبصر والرؤية، في 10 مارس (آذار) كنت كتبت مناقشة في مقال بعنوان (اقتراح ضعيف يا فريد) حول فكرة الصحافي الأمريكي فريد زكريا، الذي كتب مقالا في «النيوزويك» خلاصته: لندع متطرفي الإسلاميين يمارسوا ترفهم في مجتمعاتهم ما دام أنهم لا يملكون قدرة ولا تخطيطا على إلحاق الأذى بنا خارج حدود مجتمعاتهم. وقبل أيام قرأت لخبير عربي آخر في أمريكا هو إميل نخلة كان يعمل مستشارا في جهاز المخابرات الأمريكية (سي آي إيه) بوصفه(مديرا لبرنامج التحليل الاستراتيجي للإسلام السياسي)، وعمل فيه من 1991 إلى 2006، وخلاصة رأي هذا الأكاديمي المسيحي الفلسطيني، الأمريكي طبعا، أنه يجب على أمريكا إجراء حوار «ضروري» مع الإخوان المسلمين وحزب الله وكل حركات الإسلام السياسي، لماذا؟ لأنه: «لا مفرّ من التحاور مع الحركات الإسلامية التي تنادي بتغيير تدريجي، حتى لو كانت الولايات المتحدة تصنّفها بوصفها «إرهابية»، مثل «حماس» و«حزب الله». ويضيف «الخبير» نخلة مؤكدا: «إن الحركات الإسلامية ذات (القاعدة الشعبية) تمثّل ما بين 95 و98 في المائة من الناشطين الإسلاميين السياسيين» و«هؤلاء يسعون إلى تغيير تدريجي، ولا مفر من التحاور معهم، أما الذين لا أمل منهم من الإسلاميين فهم فقط من 2 إلى 3 بالمائة، وهؤلاء لا أدعو إلى حوار معهم»، معتبرا أن تنظيم القاعدة يدخل مثلا في هذا الجزء الضئيل الذي لا يتمتّع بوزن شعبي في العالم الإسلامي ( جريدة الحياة 4 أبريل الحالي).

رأي إميل نخلة هذا ليس خاصا به، بل هناك تيار في أمريكا متحمس لفكرة التوجه مباشرة إلى الحركات الإسلامية السياسية، وعدم الإصغاء إلى أي تحذيرات، أو تساؤلات مضادة من العالم العربي، وبذلت بعض مراكز الأبحاث والدارسات الأمريكية جهودا نشطة في عقد المؤتمرات والندوات مع رموز الإسلاميين مباشرة، ففي أبريل 2005 عقد معهد بروكينغز، ومركز سابان لدراسات الشرق الأوسط ويرأسه السفير الأمريكي السابق في إسرائيل مارتن إنديك مؤتمرا في الدوحة لما أسموه «منتدى أمريكا العالم الإسلامي»، وخلصت فيه النقاشات إلى ضرورة تجاوز مجرد الدعوة إلى فتح الحوار مع الإسلاميين، إلى الإعلان صراحة عن ضرورة تشريكهم في الحياة السياسية، بما في ذلك السماح لهم بخوض الانتخابات بصفتهم أحزابا سياسية، حتى لو فازوا فيها فلدى الإدارة الأمريكية (حينها كانت المرحلة الثانية من تحول إدارة بوش نحو الإسلاميين) الاستعداد لتقبل الأمر، كما سأل سعد الدين إبراهيم، سكوت كاربنتر، نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان.

من جهتهم، الإسلاميين، وعلى رأسهم الإخوان، ليس لديهم مانع مع فتح حوار مع الأمريكيين والعالم الأوروبي، تحت عنوان «التحاور الحضاري» والاعتراف بهم كقوة شرعية أساسية في العالم الإسلامي، وها نحن نرى نواب حزب الله في لندن، ولندن تنفتح عليهم وتدعو إلى حوار «الشق» السياسي من حزب الله ( لمسألة حزب الله سياق آخر أيضا ضمن فكرة الانفتاح على إيران) وحزب الله هو النسخة الشيعية من الإخوان المسلمين.

لقائل أن يقول: ما ضير أن تتحاور أمريكا مع الإسلاميين؟ وهل المطلوب شطبهم من الحياة السياسية؟ أليست الأنظمة العربية استبدادية، وهذه الحركات الإسلامية السياسية هي صرخة الاحتجاج عليهم؟ ثم أليست الشعوب العربية والإسلامية هي التي تريد هذه الحركات ممثلة لها ومعبرة عن ثقافتها؟

أسئلة صعبة ودقيقة، ولكن لا بد من طرحها. بشكل عاجل أشير إلى أن شعبية الحركات الإسلامية في الشارع العربي لا مجال للتقليل منها، ولا مجال أيضا للدفاع عن شفافية وديمقراطية الدول العربية، لكن الحديث هو «فيما وراء الخير والشر» على حد اللغة النيتشوية، أقصد الخير المجازي في خطاب المعارضة الإسلامي الحالي على طريقة أنهم «يملأون الأرض عدلا وقسطا كما مُلئت جورا وظلما».

بعيدا عن هذا كله وعن نقاش أسباب تفضيل الحركات الإسلامية السياسية لدى الشارع العربي، ثم نسبة هذا التفضيل لو أن الأمور الاقتصادية والسياسية كانت على ما يرام، حسب رأي أنصار الحل التنموي.. نجادل الأمريكان ومعهم الأوروبيين فقط: اجلسوا مع «المعتدلين» الإسلاميين، إن كنتم حددتم معايير الاعتدال فعلا، ناقشوهم واحتسوا معهم القهوة، وتكلموا واعقدوا الندوات الطوال، كل هذا حسن وهو من متطلبات الفهم في السياسة ومعرفة الأرض التي يتحرك عليها صانع القرار، ولكن هل المطلوب هو «الجلوس» مع الإسلاميين فقط؟

أخشى أن جماعة الخبراء هؤلاء يقبعون خلف الشجرة التي تحجب الغابة، شجرة الحوار المقطوعة، باعتبار أن مجرد فتح قنوات اتصال مع الإسلاميين والذي كان يعتبر «خطا أحمر» هو الغاية والحل الجريء.

طيب.. وبعد الحوار والجلسات الطوال، وأكواب القهوة الساخنة وأوراق العمل التي نعرف سلفا كيف ستُحشى بالكلام الحلو عن قيم السلام والحوار الحضاري والعدل الاجتماعي.. إلخ كيف سيقنع أمثال مارتن إنديك وبقية الأمريكان شخصا مثل خالد مشعل أو مهدي عاكف أو عبد المجيد الزنداني أو حسن نصر الله أو قاضي حسين أو بيت الله محسود أو ملا عمر أو وليد الطبطبائي أو نجوم الأصولية السياسية في السعودية وغيرها، كيف سيتم إقناعهم بالاعتراف بمبادرة السلام العربية وتقبل وجود دولة إسرائيل؟ هذا المثال أتيت به ليس شغفا بإسرائيل، بل لأن إسرائيل هي «خط أحمر» لدى أمريكا لا يمكن المساومة عليه.

أمر آخر، كيف سيتقبل الإسلاميون فكرة التعاون الدولي للقضاء على الإرهاب؟ كيف سيكون موقفهم من مواثيق حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية الملزمة؟ كيف سيتم إقناع الإسلاميين بعدم إقامة دولة على غرار إمارة الملا عمر أو إمامة الولي الفقيه في إيران.

إننا في حلقة تجلب الدوار والحيرة، ومن يقول دعونا نجرب الإسلاميين في الحكم، مع أنهم جربوا كثيرا، تراجع بعضهم وقدم الانتقادات لكلامه لما رأى برهان الواقع التطبيقي، مثلما صنع سعد الدين إبراهيم مع إمارة حماس في غزة.

لا ندري حقيقة كيف الخلاص من هذا القفص الفولاذي، وكيف نجعل الأنظمة العربية تمارس الحكم الرشيد، بوسائل تغيير سلمية وطبيعية ومن داخل الدولة، وبين أن نضمن أن لا تعم الفوضى أو يقفز على السلطة أناس همهم الأكبر محصور في جَلد المجتمعات وفرض نموذج اجتماعي وسياسي يفصلنا ـ أكثر مما نحن ـ عن العالم والعصر..

رحم الله حكيم اليمن الشاعر البردّوني حين قال:

فَظيعٌ جَهْلُ ما يَجرِي/ وأفظَعُ منه أن تدرِي

[email protected]