التشدق بالدين والاستيلاء على الأرض

TT

جاءت المظاهرات التي اندلعت بمختلف أرجاء باكستان أخيرا، وأجبرت الرئيس آصف علي زرداري، على إعادة تعيين رئيس المحكمة العليا السابق، في أعقاب شن مسلحين هجوما ضد الفريق الوطني السيرلانكي للكريكيت، لتشكل مجرد أحدث حلقات حالة زعزعة الاستقرار التي تعاني منها البلاد.

وكان من الصعب التكهن بحدوث مثل هذا الأمر منذ 18 شهرا ماضية، عندما توجهت جوا إلى إسلام آباد برفقة نواز شريف، رئيس الوزراء السابق. في ذلك الوقت، بدت الإمكانات جيدة، حيث توصل شريف، إلى اتفاق مع خصمه الرئيس، بي نظير بوتو، لإعادة الديمقراطية إلى البلاد. وأخبرني شريف: «لست خائفا، سأعود إلى الوطن بعد سبع سنوات من الغياب عنه. ويتركز شغلي الشاغل في وضع نهاية للعنة الديكتاتورية وتوفير بعض الراحة للشعب الباكستاني».

بيد أن الأنباء التي نمت إلى مسامعي في ذلك المساء، حملت نذر الشر بها، حيث أصدر اتحاد الحلاقين بوادي سوات لتوه أمرا يحظر «قص الشعر على النسق الإنجليزي» وحلق اللحية. وفي الوقت ذاته، اشترك زوار أجانب ـ ربما من أوزبكستان ـ في معسكرات تدريبية في الغابات. وأخبرني صبي مراهق أن مدرسة ابنة عمه المخصصة للفتيات تعرضت للتفجير.

أما اليوم، فقد اختلفت الأوضاع السياسية على نحو بالغ، حيث لقيت بوتو مصرعها في هجوم انتحاري في ديسمبر (كانون الأول) 2007، وفرض حظر على تولي شريف مناصب عامة، وتحول وادي سوات إلى ميدان للقتل.

والواضح أن الإقليم تم تسليمه إلى طالبان باكستانية في صفقة حمقاء، تم إبرامها نيابة عن حكومة زارداري. ومثلما الحال مع غالبية الحركات الثورية العنيفة، استغلت طالبان غياب العدالة الاجتماعية، وفلسفة غير مفهومة على النحو الأكمل كذريعة لفرض سيطرتها على المنطقة، وإحكام قبضتها على السلطة بها. وعليه، استولت الحركة على منازل وممتلكات، وأعلنت طالبان أنه يتعين على الأفراد دفع 40 في المائة من الإيجار إلى أصحاب العقار، و60 في المائة إلى «الجهاد».

وداخل منغورا، عاصمة الإقليم، تدلت جثث مقطوعة الرأس من أعمدة الإنارة، ومثبت بها أوراق تشير إلى العمل «المنافي للإسلام»، الذي استوجب عقوبة القتل. وأغلقت 185 مدرسة على الأقل أبوابها، غالبيتها مدارس فتيات، في الوقت الذي تعرض مسؤولون حكوميون وصحافيون وأفراد من قوات الأمن للقتل ذبحا. وعليه، لم يكن من المثير للدهشة أن تفر أسرة زوج شقيقتي من الإقليم، إلى جانب 400.000 آخرين.

أما الأمر الذي يخفق الكثير من الغربيين في إدراكه فهو أن إقليم سوات ليس واحدا من المناطق الحدودية المقفرة في باكستان، وإنما يبعد 100 ميل فقط عن العاصمة إسلام آباد. ومثلما أوضحت شاهين ساردار علي، ابنة عم سناء، وهي بروفيسور في القانون بجامعة وارويك، وكانت امرأة تتولى مسؤولية وزارة بحكومة الإقليم الشمالي الغربي الحدودي، أن: «سوات منطقة لا يمكنك تخيلها كتربة خصبة للتطرف». واستعرضت ذكرياتها عندما كانت ترتاد المدرسة وهي طفلة دون ارتداء حجاب على شعرها في الستينيات، ودراستها جنبا إلى جنب مع الفتية. لكن اليوم، بات الخطر يتهدد حياة أي فتاة ترتاد المدرسة.

سمح لرجال الدين كبار السن بإملاء النهج الذي ينبغي أن تتبعه الحياة اليومية لسكان سوات. من ناحيته، وصف وزير الخارجية في الحكومة التي شكلها زارداري، شاه محمود قرشي، الوضع بأنه: «حل محلي لمشكلة محلية». بيد أنه في الواقع، يعتبر الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع طالبان أخطر صفعة تتعرض لها وحدة أراضي البلاد منذ الحرب الأهلية عام 1971، عندما استقلت المنطقة التي أصبحت لاحقا بنغلاديش. والمؤكد أنه عندما يتم التنازل عن جزء من الأراضي على هذا النحو، تصبح هناك صعوبة بالغة في استعادتها مجددا. يذكر أن الافتراض الرئيس الذي قامت عليه الحرب ضد الإرهاب يتمثل في ضرورة عدم السماح للجماعات المتطرفة بالحصول على ملاذات، تتمكن انطلاقا منها من تهديد بقية أرجاء العالم. في هذا الإطار، يتضح أن فقدان وادي سوات يمنح طالبان وغيرها من الجماعات المتطرفة قاعدة يمكن الانطلاق منها نحو بناء مستقبل لها.

ويشبه انزلاق باكستان باتجاه الفوضى، الأوضاع التي شهدتها أفغانستان خلال التسعينيات، حيث وجدت النخبة الأفغانية آنذاك من الأسهل التظاهر بأن الوضع السياسي سيتحسن، عن مواجهة الحقيقة واتخاذ إجراءات عملية إزاءه. ومنحت الفرق المتشاحنة داخل كابل الفرصة لطالبان للسيطرة على قطاعات واسعة من جنوب البلاد، بينما رفضت النخبة الأفغانية النظر إلى هذا الأمر باعتباره لن يسفر سوى عن بث مزيد من الجرأة في نفوس الإسلاميين، بحيث يتحركون باتجاه العاصمة.

وبالمثل، يسعى الإسلاميون حاليا نحو تدمير باكستان كدولة قومية، ويعون جيدا أنهم أحرزوا نصرا استراتيجيا في وادي سوات. أما أمل الرئيس أوباما في أن يتمكن من دفع العناصر «المعتدلة» داخل أفغانستان وباكستان بعيدا عن العنف، مثلما حدث مع المسلحين السنة في العراق، فتعترضه عقبة كبرى، تتمثل في أن طالبان الباكستانية تدرك أن النصر حليفها في الوقت الراهن. والواضح أن إبرام اتفاق معهم الآن سيعد بمثابة استرضاء.

والملاحظ أن الجيش الباكستاني تم منحه مليارات الدولارات من أموال دافعي الضرائب الأميركيين كي ينزل الهزيمة بطالبان، لكنه فشل. بل ويبدو أن بعض الأموال تم تحويلها لحساب المسلحين. ويتسم الجيش الباكستاني بمهارات محدودة فيما يخص تكتيكات مكافحة التمرد، أو جهود الفوز بالعقول والقلوب. في الواقع، تمثل الإنجاز الرئيس للجيش الباكستاني على امتداد العقدين الماضيين في تدريب المسلحين على قتال القوات الهندية في كشمير.

في هذا الصدد، أوضحت بروفيسور شاهين علي، في حديثها معي أن: «سكان وادي سوات لا يملكون عملا، ولا مالا، ويشعرون بالفزع من الجيش. لم تعد القوة بديلا قائما، لقد فات أوان ذلك». والواضح أن هناك حاجة ملحة لإصلاح وتعزيز الوكالات المدنية المعنية بفرض القانون، والسبيل الوحيد لتحقيق ذلك توحيد صفوف الحكومة والسياسيين المعارضين، مثل شريف، الذين لا يزالون يتمتعون بتأييد شعبي، مع العناصر التقدمية داخل الجيش، إلى جانب الاعتراف بالخطر الإسلامي المحدق. وحال عدم تحقق ذلك، فإن بلادهم تواجه خطر التحول إلى أفغانستان جديدة، لكن مسلحة نوويا هذه المرة.

*مؤلف صدر له أخيرا كتاب بعنوان «العالم كما هو: السيرة الذاتية المصرح بها لفي. إس. نيبول»

*خدمة «نيويورك تايمز»