تأملات في القمة العربية؟!

TT

انعقدت القمة العربية وانفضت بعد ست ساعات من انعقادها، وكان كل الحاضرين في عجلة إلى الانصراف إلى الدرجة التي لم يشعروا فيها بوجود حاجة لاستمرار المؤتمر يوما ثانيا كما كان مقررا في جدول الأعمال. وكما هي العادة صدر بيان طويل عن القمة فيه الكثير الذي لا يقول شيئا، ومعه قائمة طويلة من القرارات التي يكرر الأغلبية الساحقة منها في كل قمة دون أن يسأل أحد ما الذي جرى لها بين القمم. وكما يحدث في كل مرة انشغل الناس بمن حضر ومن لم يحضر، وبينما كانت القصة تخص مصر والسعودية عندما انعقدت القمة في دمشق، فقد انفردت القاهرة بالقصة هذه المرة حتى ولو شاركتها دول عربية أخرى الغياب.

وفي العالم كله تجري قمم إقليمية كثيرة، ولكن في منطقتنا العربية فإن هناك رفضا فوريا لفكرة القمة «الإقليمية» حيث لا يجوز اعتبار «الوطن العربي» إقليما من الأقاليم بل هو وحدة سياسية من أصحاب التاريخ والمصير المشترك، ويضيف لها البعثيون أنها ذات رسالة خالدة أيضا. وفي قمم العالم الأخرى التي لا تحظى بمثل هذه الروابط الأبدية والأزلية، ويعتبر المواطنون فيها إخوة، اما واحدة من الدول فيعزى لها اسم «الشقيقة الكبرى»، فإنها تجتمع بصورة دورية لحل معضلات ومشكلات، وتعزيز مصالح جرى تحديدها، وإعلانها سلفا. ولم يسمع أحد في تجمع الاتحاد الأوروبي شيئا عن العلاقات الأزلية، ولا الروابط الأخوية ولا كانت إندونيسيا هي شقيقة كبرى في تجمع «آسيان» ولا كانت البرازيل «أخا أكبر» في جماعة «الميركوسور» في أمريكا الجنوبية. أما في جماعتنا العربية حيث توجد كل هذه التعبيرات «الحميمة» جدا، فإن القمم دائما ما تخصص لتحقيق «المصالحة» أو «تنقية الأجواء» أو تحقيق «الوفاق والاتفاق»، وكلها تعني ليس فقط خلافات عميقة، وخصومات متكررة، وإنما أيضا حالة عدائية كامنة لا يمكن تجاهلها طالما أن المهمة الأساسية للتجمع السياسي هي تحقيق المصالحة.

وحتى بالنسبة للمصالحة، فقد كان إنجاز قمة الدوحة هو المصالحة بين السعودية وليبيا، ولكن المراجعة للأمر تجعلنا نقف حائرين أمام الحالة العربية. فنحن لا نعرف ما هو الخلاف الذي تم حله بين دولتين، حيث لا يعرف أحد ما هو أوجه التناقض ما بين دولة متوسطية، ودولة واقعة بين البحر الأحمر والخليج، وكلاهما منتجان للنفط، وينتميان إلى المذهب السني ولا توجد حدود مشتركة يجري الخلاف عليها، ولا توجد عمالة ليبية في السعودية، ولا العكس حادث أيضا. الدول إذن ليست داخلة في الموضوع، وإنما هو تطاول حاوله العقيد القذافي ـ قائد الثورة الليبية ـ في قمة شرم الشيخ السابقة 2004، وحاول إصلاحه في قمة الدوحة. ولكن هذه الأخيرة شهدت ما لم يشهده أحد في تاريخ المصالحات، حيث جرى التطاول مرة أخرى وبذات الكلمات بعد أن أضيف لها أن صاحب الموضوع لم يعد فقط قائدا للثورة الليبية، بل صار أيضا ملك ملوك أفريقيا وعميد الحكام العرب وإماما للمسلمين، وبالتالي فإن مكانته تقف فوق كل أنواع الصغائر، ومن بعدها غادر الاجتماع. المشهد نفسه كان مؤثرا كما هو الحال في المشاهد السينمائية، حيث جاء العقيد حاملا معه أفريقيا وليس الوطن العربي، ومرتديا نظارة شمس مذهبة في قاعة بعيدة عن ضوء النهار، وقال كلمته مقاطعا رئيس الجلسة. وربما خفف من الموضوع ما قالته وكالة الأنباء الليبية من أن القائد لم يكن يعيد الحديث السابق وإنما كان فقط يذكر به، وهو تبرير كان كافيا لصورة تجمع قادة الدولتين.

وعندما تابعت هذه المشاهد فقد تخيلت نفسي زعيما أوروبيا أو أمريكيا أو حتى آسيويا أفريقيا من العالم الثالث مثلنا وشاهد ما شاهدناه، فما هي الأفكار التي سوف تدور في الذهن عن الأمة ذات الرسالة الخالدة. لاحظ هنا أنه لا دخل لإسرائيل في الموضوع، ولم يكن هناك حضور أو آخر للإمبريالية، وحالا قاعدة العديد القريبة لم يكن لها نوع من التشويش على ما يجري في القاعة. وهذه المرة لن يكون بمقدور عربي اختراع علاقة بين كل هذا وحالة القمة هذه؛ لأن القمة بعد تحقيق المصالحة منحت العقيد القائد حق عقد القمة القادمة في طرابلس، اعتمادا على أنه بعد عام سوف يكون لكل حادث حديث، فالطائرات جاهزة لكي يترك الجميع القمة. وصار الأمر كما لو كان الاجتماع لأسرة لا بد لها وأن تجتمع في كل عيد للفطر، وبعد أن تعبوا من المشاجرات السنوية قرروا أن يكون اللقاء احتراما للأجداد فقط وبعدها ينصرف الجميع كل إلى حال سبيله.

دليل ذلك أكثر بيان القمة ذاتها الذي أغرق في الحديث للمرة الألف عن «المصالحة»، ولكنه ترجمها إلى ضرورة «الالتزام بميثاق جامعة الدول العربية»، ولمن لا يتذكر فإن هذا الميثاق قد تم إقراره منذ عام 1945 (64 سنة مضت عليه)، فإذا لم تكن الدول العربية قد التزمت به منذ هذا التاريخ فهل تفيد فقرة أخرى في بيان مشترك؟!. ويبدو الحال وأن هناك حاجة للتأكيد على ما هو بديهي لأن البيان قال أيضا بضرورة «التوجه الجاد (والجدية دائما مشكوك فيها) والمخلص (والإخلاص ليس واحدا من الفضائل الشائعة حاليا) نحو تنفيذ ما سبق أن تعهدنا به في وثيقة العهد والوفاق والتضامن (أي أن الأمر تم تقنينه في وثيقة من قبل وصار واجبا التذكير بها)». وأضاف البيان تأكيدا ضروريا على «أهمية انتهاج أسلوب الحوار والتشاور في حل الخلافات العربية (لاحظ الدهشة التي سوف تعتري أمم العالم من هذا التأكيد، فإذا كان العرب لا ينتهجون أسلوب الحوار أو يتشاورون فما هي الحاجة لوجود التجمع العربي من الأصل). وإذا كان كل ذلك يمكن ـ مع الدهشة والعجب القبول به ـ فإن ما جاء في البيان بعد ذلك يصل إلى أقصى درجات النفاق العربي، حيث قال «العمل على بلورة إستراتيجية موحدة للتعامل مع التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية وغيرها من التحديات التي تهدد الأمن القومي العربي»!! (علامات التعجب من ناحيتنا حيث لا يجوز أن تكون أقصى الأماني هي الحوار والتشاور ثم بعد ذلك تتحدث عن الأمن القومي العربي مرة واحدة وإلا فقدت الكلمات معناها تماما). ويصل النفاق العربي ـ أي من بيان الجامعة العربية عن القمة ـ إلى قمته عندما يؤكد على «أهمية الاتفاق على نهج موحد للتمكن من مواجهة تحدي صراعات الحضارات والأزمة الفكرية والثقافية الناجمة عن ذلك وتأثيرها على علاقات الغرب مع الدول العربية..»(معذرة كيف يمكن لمن لا يعرف الحوار أو التشاور ورسم إستراتيجية مشتركة أن يكون قادرا على الاتفاق على نهج موحد لمواجهة صراع الحضارات؟!).

المسألة هكذا مضنية للغاية وفيها الكثير من النفاق وغياب للصراحة والوضوح، بل وفيها الكثير من التناقض، وأكثر من ذلك يوجد فيها نوع من «المصالحات المركبة» حيث يدخل في المصالحة العربية مصالحة أخرى فلسطينية طال زمن خصومتها، فحثت القمة العربية الفلسطينيين على المصالحة، وحيت الجهود الجارية من أجلها (أي التي تجري في القاهرة). ولكن ما أن وصلت وفود فتح وحماس إلى القاهرة بعد يوم من القمة، حتى اتفقوا بعد يوم آخر على فض الاجتماعات والانعقاد بعد ثلاثة أسابيع من أجل التشاور، وهم الذين كانوا في أسابيع يقومون بعملية التشاور لأسابيع أخرى، وهكذا انهارت المصالحة الفلسطينية قبل أن تبدأ رغم نصائح القمة، ورغم الوزارة الإسرائيلية الجديدة لأن المصالحة الفلسطينية غير ممكنة بقدر ما هو حال المصالحة العربية. وإذا لم تكن وزارة جديدة لنتنياهو وليبرمان تدفع الفلسطينيين إلى «المصالحة» فماذا يكون الدافع، ولكن لماذا نذهب بعيدا ولم توحد حرب غزة الفريقين ربما لأن كليهما حصل على كيان يكفيه، وشعب يكفي للبكاء عليه، ولله في خلقه دائما وأبدا شئون؟!