أبو ظبي.. «کلمة سواء»!

TT

سأل محمد مهدي الجواهري (ت 1997) حين قيل له: وصلنا أبو ظبي: «وأين أم ظبي»! ولا أجد مزحة أبي فرات خالية المعنى، فلخفض جناحها، وسيماء جمالها، ودقة نظامها، ولاسمها الأقدم تكون أبو ظبي أقرب إلى حنو الأم من جفاء الأب. وأرجو ألا يحسبها الظبيانيون على الجواهري، بما حسبناه على محمود درويش، وهو يتغزل بقمر بغداد الأنثى.

لا تخلو أبو ظبي، على مدار العام، من مؤتمر، أو معرض كتاب. وفي العام الماضي كانت حصة العراق، من جوائز «الشيخ زايد للكتاب»، واحدة للمعمار المعروف رفعت الجادرجي، لكتابه «في سببية وجدلية العِمارة». وكان لشطب الديون عن العراق أبعد مما تحويه الجوائز من معانٍ، بينما الجوار الجنب ما يزالون يناقشون حقهم فيها!

يُنبيك اسمها الأقدم «أم النار» عن تاريخ غابر، ربما أخذته من ممارسة طقوسية كانت سائدة، ذلك إذا علمنا شيوع الزرادشتية بالبحرين وما يجاورها قبل الإسلام. هذا، ولاحظت التسمية على لوحة من لوحات الطريق بين أبو ظبي والعين. وقيل في اسمها الحالي: إن صياداً اصطاد ظبياً، ومات بالقرب من بئر، فسميت البئر والبلاد بأبو ظبي.

أما بقية الإمارات الست، فقيل: دُبي تصغير دبا، وهو جنس من الجراد، ومن معانيها الوصل. وسميت بالشارقة لموقعها أقصى شرق صاحباتها. وقيل في أم القيوين أم القوتين: البحرية والبرية. ونحتت الفجيرة اسمها من تفجير الينابيع. وتنسب عجمان إلى اسم القبيلة القاطنة فيها.

وأخيراً رأس الخيمة، وهي آخر المنضمات إلى الاتحاد، فاسمها القديم جُلفار، وهي الوحيدة، من بين الإمارات السبع، يورد اسمها ياقوت الحموي(ت 626هـ) في معجمه. إضافة إلى دَبا التي تحسب من أرض عُمان، من دون اتصال ببرها، وهي إلى إمارة الفجيرة أقرب.

زرت دَبَا هذه، حيث مقبرة «الصحابة»، حسب ما اتفق على اسمها، ولم أصلها مع الدكتور محمد عاكف إلا عن طريق رجل باكستاني، فلا آثار عُمان ولا الإمارات يعرفون عنها شيئاً، بعد اتصال تلفوني بالمؤسستين! وهي ليست لقتلى حرب اليمامة (11هـ)، من أرض نجد، مثلما سمعتُ بالشائعة.

بل هي من آثار قتلى المعركة مع المرتدين بزعامة لُقيط بن مالك الجُلندي(قُتل 11هـ)، وقد أتى صاحب «تاريخ الأمم والملوك» على خبر هذه المعركة وحدد مكانها بدَبَا. ولما جال ناظري في تلك القفراء، وامتداد شواهد القبور، من دون أسماء، قلت: أتتُرك هذه (الثروة) هكذا من دون استغلالها كمصدر ارتزاق، لو كانت ببلاد كلفت بأضرحة ومقامات مقببة، بعد إحاطتها بالخوارق والكرامات! فكيف بقبور الأصحاب! وكم احتوت تلك القبور من تصادم الأضداد، فمَنْ له التمييز بين رفات لُقيط ورفات قاتله! وکم بيننا مِنْ ضريح فارغ، أو ضم رفات عدو زائريه!

كان مؤتمر «كلمة سواء»، آخر ما ترسخ بذاكرتي من أبو ظبي، حيث جلس مفتي الديار المصرية الشيخ علي جمعة، وبمحاذاته القس وليم جريح مساعد رئيس أبرشية. افتتح راعي المؤتمر وزير التعليم العالي والبحث العلمي، الشيخ نهيان بن مبارك، الندوات بكلمة سواء عارض فيها فكرة استحالة اللقاء بين حضارتي الشرق والغرب!

أثار وجود الشيخ جمعة، لا غيره من الاستئصاليين، في خاطري ما واجهه الشيخ بمصر، لاعترافه بالمذهب الإمامي، ولاقتفائه أثر شيخ الأزهر محمود شلتوت (ت 1963)، في رده على مستفت بمناسبة المولد النبوي (1958): «إن الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتباع مذهب معين...»! والشيخ يدرك، وهو على منصة ندوة «كلمة سواء»، كيف يُستعان بالآية شاهداً، للقرب من الديانات الأُخر، إذا لم تُذلل الصعاب ما بين أهل الدين الواحد. أما الخشية من طغيان إيراني، فمَنْ قال إن مثل هذا الاعتراف يُنشط التدخل الإيراني، ولا يحد منه! ألا يدفع الإقصاء إلى البحث عن حاضنة!

إن واقع الحال، حيث توظيف النصوص لتكريس الكراهية، يفرض رفع ما في المصحف من دعم ثقافة التعايش بين البشر، على اختــلاف أجناسهم وأديانهم ومذاهبهـــم. ولا يجـــد الداعون إلى تلك الثقافة أرقى من قوله: «قل يا أهل الکتاب تعالوا إلى کَلِمة سَوَآء بيننا وبينکم»(آل عمران: 64)! فمن معاني السواء: العدل، والوسط.

ولعلَّ مفتي الإقصاء سيلجأون إلى ناسخ لهذه الآية، مثلما وضع هبة الله البغدادي (ت 410هـ) في «الناسخ والمنسوخ» لأكثر من سبعين آية، من آيات الإلفة والتوادد، نواسخ، ومنه نسخ: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن»(العنكبوت: 46). ومثل «كلمة سواء»، ولا «إكراه في الدين» نصوص مفتوحة على كل مكان وزمان! بينما سواها، مثل بآية السيف، محصورة بزمان نزولها ومكانه.

[email protected]