الدبّور الذي زّن على خراب عشه

TT

ليس لي في الحلا أو الحلاوة أي نصيب، هكذا يقول لي كل من يعرفني، ومعهم كامل الحق، فمحسوبكم محروم منذ صغره من هذه اللذة أو المتعة التي يتهافت عليها الملايين في أصقاع الأرض، ولو أن ربي سبحانه أراد أن يسخطني فلا أستبعد إطلاقاً أن يحولني إلى زيتونة مثلا أو مكعب جبنة أو ليمونة أو حتى إلى قرن شطة، وذلك أضعف الإيمان، ومن الصعب جداً أن أكون قالب سكر أو لوح شوكولاته أو تورتة غاتوه أو قرص عسل.

وعلى ذكر العسل فما فتئ أحد معارفي يمطرني بهداياه من أقراص العسل في كل موسم، فأتقبلها منه شاكراً، وأتصل به بالتلفون مشيداً بجودتها، وأختم مكالمتي له في كل مرّة بالجملة الخالدة قائلا له: اللهم زد وبارك.

وبعدها أوزع تلك الأقراص كهدايا لمن أعرفهم من علية القوم أو الواصلين في الأجهزة الحكومية، لا (لأكسر عيونهم) لا سمح الله، ولكن لكي يسهلوا ويمشّوا أموري ويقضوا حاجتي في بعض المعاملات التي (أسترزق) منها، ولا أتذوق منها ناهيك أن آكل منها حتى ولا ملعقة واحدة.

وقد استمر ذلك الرجل الشهم على هذا المنوال الرائع في إغراقي بعسله أكثر من عشر سنوات متتالية، إلى أن زرته قبل سنة في مزرعته أو منحله الواقع في تهامة عسير، وقد فرح بقدومي ورغبة منه في زيادة إكرامي كان العسل هو الطبق الرئيسي في الإفطار أو الغداء أو العشاء، فكنا نأكله مع الخبز ومع الرز أو مع اللحم أو حتى بدون مبالغة مع الفاكهة خصوصاً الموز.

جاملته أول يوم، وكنت في كل مرة ـ ولا مؤاخذة ـ أكاد أن أستفرغ، ولكنني في النهاية لم أعد أقدر على المجاملة أو الصمود، فاضطررت إلى أن أصارحه قائلا: إن ما أكلته من العسل عندك خلال 24 ساعة هو أكثر مما أكلته طوال عمري، فالله يرضى عليك اعتقني خلاص فقد خرج العسل من مناخيري.

عندما سمع كلامي هذا أحسست بالضيق في نفسه، فقال لي: كيف إذن كنت تقول لي دائماً خلال مكالماتك أنك لا تشبع من أكل العسل، وكنت طوال الوقت تحثني على المزيد في إرساله؟!

حاولت التبرير له بأعذار كاذبة وواهية، غير أنها لم تمش عليه، ولكنه مع ذلك جاملني وأخذ يفرجني على مناحله التي لا تقل عن ألف خلية، وكيف أنه يأخذها في الصيف إلى المرتفعات الباردة، وعندما يحل الشتاء يهبط بها إلى مقره في تهامة، حيث أن المنطقة دافئة.

وسألته متعجباً كيف يستطيع أن يحافظ على هذه الكميات الهائلة من النحل، وكيف أنه لا يخشى عليها من الهروب؟!

فقال لي: إن النحل أوفى وأذكى من الإنسان، وأن النحلة مهما ابتعدت عن خليتها لا بد وأن ترجع لها، وأكثر ما يضايقه ويقلقه هو تسلط (النحل المصري) الذي أخذ ينتشر عندهم بكثرة في المدة الأخيرة، حيث إن النحلة المصرية أكبر حجماً وهي نحلة مفترسة تتسلط على النحلة المحلية وتقتلها، وأحياناً تحتل خليتها وتأكل عسلها وشمعها.

فقلت له: سبحان الله، رغم أن الإنسان المصري هو وديع وكريم بطبعه، ويود لأخيه ما يود لنفسه، فكيف أن تلك النحلة لم تتأس به؟!

انتهت زيارتي له وذهب معي وودعني حتى باب المطار.

ومن ذلك اليوم حتى الآن لم يرسل لي كعادته في المواسم حتى ولا ملعقة عسل.

وأصبحت (كالدبّور الذي زّن على خراب عشه)، وما زالت الاتصالات تتوالى علي بين الحين والآخر من الذين تعودوا على هداياي من العسل يسألونني عنه، وأخشى ما أخشاه أن مصالحي سوف تتعطل، أو هي بالفعل قد تعطلت.

[email protected]