القبة التي ظننتها مزارا!

TT

عشت عمري أسخر من أولئك الذين يتشبثون بوجود نظرية المؤامرة، ويرون أن وجود أعداء للفرد لازمة حياتية كالظل، حتى ولو كانت أسباب العداء مجانية، وأول مرة استشعرت احتمال صحة النظرية خسرت فيها عملي، وحينها كنت مشرفا ثقافيا لأحد الملاحق الأدبية في نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي، وكان الناسج لخيوط المؤامرة عليَّ «صديقي»، وعلى إثرها أصدر رئيسي في الصحافة آنذاك فرمانا «قراقوشيا» بإقالتي، يومها لم يتصل بي من «الأصدقاء» سوى فراش الصحيفة (عم جابر) معبرا عن حزنه لإقالتي بينما انشغل «الأصدقاء» في تقاسم إرثي الوظيفي المتواضع، وبقينا «أصدقاء»!

تلك التجربة لم تغير قناعتي، ولكنها أكسبتني قناعة جديدة بأن الذين ينشغلون بالدسائس في حقل الصحافة هم أولئك الذين لا تربطهم أية علاقة حقيقية وجوهرية بالعمل الصحافي، أولئك الذين قدموا إليها في مواسم «الأوكازيونات» فتشبثوا بها، وحموا وجودهم بسياج الخدمات الخاصة التي يقدمونها تعويضا، و«صديقي» ـ الذي تآمر علي ـ لم يكن صحافيا قط بقدر ما كان خادما ـ خمس نجوم ـ نظيف الثياب، يجيد التعقيب على معاملات رؤسائه، وما أكثر الرؤساء الذين يفرحون بأمثال هذا من «الصحافيين» أصحاب المواهب الشاملة: سائقا وخادما ومعقبا وتابعا ومداحا و..... وغيرها من المواهب الخفية والظاهرة، والأمر لا يقتصر بطبيعة الحال على حقل الصحافة وحده.

وأعترف أنني حينما غدوت رئيس تحرير لإحدى المجلات خدعت لفترة قصيرة من الزمن بـ «صحافي» يجيد تسويق ذاته، جلبة، وادعاء، و«منظرة»، وكانت عدته وعتاده في هذه المهنة «غترة» منشاة، وقلم «باركر»، وجهاز تسجيل «توشيبا»، فهو كالقبة ـ الديكور ـ التي يظنها البعض مزارا، ثم يكتشفون أنها مجرد كومة من الأحجار.

فإذا كان من الصعب أن نخضع كل أسباب الشقاء البشري لنظرية المؤامرة، فإن من البلادة ـ أيضا ـ نفي وجودها، واتهام القائلين بها بالهلوسة، والوهم، والوساوس المرضية، فثمة شريحة من الناس عدوانية بطبعها، حالها يشبه حال الأفعى، التي تشتد كثافة السم في داخلها فتبحث عن جسد تفرغ فيه سمومها لكي تستعيد توازنها.

ويقول الباحثون في فساد الطباع البشرية بأن اقتلاع النزعات العدائية من دواخل المصابين بها أمر يتسم بالكثير من الصعوبة، وحال الطامح إلى علاجها كحال الأعرابية، التي قامت بتربية جرو ذئب منذ ولادته، فلما كبر افترس شاتها فقالت:

بقرت شويهتي وفجعت قلبي

وأنت لشاتنا ولد ربيب

غذيت بدرها وربيت فينا

فمن أنباك أن اباك ذيب

كفانا الله وإياكم شرور المؤامرات والمتآمرين.

[email protected]