خواطر حول أثرهما الجميل.. حتى الساعة توقفت

TT

يجلس هذا الطيب الآسر الفكر، النبيل التفكير، في مطار الخرطوم العام 1988 ويتأمل في حال البلد الذي يحب: «آه أي وطن رائع يمكن أن يكون هذا الوطن لو صدق العزم وطابت النفوس وقل الكلام وزاد العمل». لكن أي عمل في هذا اليوم من 1988. مطار متجمد الحركة برغم الحر. والناس طوابير لكنها لا تنتظر شيئاً ولا تأمل شيئاً. والطائرات لا تهبط إلا لماماً. وإذا هبطت لا تقوم من جديد. والسودانيون مسافرون مهاجرون إلى أي مكان.

في مطار الخرطوم، في يوم من 1988، يمرَّ الوقت فارغاً ومملا: «يدهمني الحزن الآن، في هذه الصالة الرثة، في هذا المطار القميء، في هذه المدينة المهملة، في هذا الوطن الحبيب اللعين». حتى اسم بلده يبعث فيه غصة. لقد سمي السودان بعد الاستقلال لأن زعماءه لم يتفقوا على رأي «ويا ليتهم عادوا إلى الاسم القديم، سنار (....) إن اسمه لا يعني لأهله شيئاً، فما السودان؟ مصر مصر واليمن يمن والعراق عراق ولبنان لبنان، ولكن ما السودان؟ لقد أطلق المستعمرون هذا الاسم على كل تلك الرقعة الممتدة من حدود الحبشة شرقاً إلى غاية بلاد السنغال غرباً».

حتى ساعة يده توقفت في الساعة 4.50 من يوم 21 أيلول 1988: «لا توجد ساعة في هذه المحطة. وساعتك وقفت بتأثير قوة غامضة تصيب الحركة بالشلل في هذا المكان، وكأن الزمن فرس رهان زلت به القدم وهو يكاد يبلغ نهاية الشوط. عشر دقائق فقط وتصبح الخامسة، لكنها لن تكتمل وسوف تظل هكذا معلقة إلى الأبد بين التمام والنقصان».

كنت أتمنى ألا أتوقف في رحلة العودة إلى فكر الطيب ونبله وخلقه وقضاياه البسيطة وثقافته المتعددة والغامرة. لكنني أخشى دائماً من الإطالة في مثل هذه المسلسلات. وأخشى أكثر أن يخيل إلى أحد أنه ليس لدي ما أكتب فجعلت أستعير. لكنني طالما غبطت هؤلاء القوم على سعتهم العظيمة. الصادق النيهوم الذي كان متجدداً مثل موج المتوسط في أفريقيا. والطيب صالح الذي لم يكن ما هو أعظم منه سوى تواضعه. وكثيرون سواهم من عرب الثقافة والفكر والشغف، الذين فضلت بلدانهم أن يموتوا بعيدين على ضفاف البحيرات. ابعدوا عن الموج.