التقارب الأميركي ـ التركي يقلق إيران

TT

النقلة النوعية في العلاقة الأميركية ـ التركية ستحقق كسبا لسوريا وخسارة لأكراد العراق. المعادلة مع الإدارة الأميركية الجديدة اختلفت، والمراهنات تفاوتت مراتبها. في كلمته أمام البرلمان التركي يوم الإثنين الماضي قال الرئيس الأميركي باراك أوباما إن أميركا وتركيا لم تتفقا دائما على كل قضية، وهذا أمر متوقع، إنما خلال الستين سنة الماضية التقتا أكثر مما اختلفتا. وأضاف: «إن قوة تحالفنا تجعل العالم أكثر أمنا».

هناك الكثير من المناطق حيث لأميركا وتركيا مصالح مشتركة. وباختياره تركيا وجّه أوباما رسالة إلى الدول الإسلامية، حيث لا عداوة معها. كان يريد إعادة لحم كل الجسور التي تحتاج إليها أميركا لحل مشكلاتها في المنطقة، لهذا لوحظ أنه عندما سئل عن الإبادة الأرمنية لم يسترسل كما يفعل عادة. وهو في موقعه على الإنترنت أسماها «إبادة»، لكنه في أنقرة تجنب لفظ الكلمة، وإن قال إنه لم يغير رأيه عن أي شيء قاله في الماضي، إنما تجنب لفظ كلمة «إبادة» الأرمن.

بسبب وضعها الجيو ـ استراتيجي والصورة المعروفة عنها كدولة الإسلام المعتدل، التي لديها جيش قوي، تعامل تركيا كحليف ضروري للغرب، خصوصا عندما تقع مشكلة، لكن كل هذه «الصفات» تمنع في الوقت نفسه الغرب من التعامل معها كشريك طبيعي.

مع حزب «العدالة والتنمية» الحاكم استفاقت تركيا وأرادت توسيع مسرح نفوذها، وأن تكون لاعبا مستقلا في الشرق الأوسط ورائدة في العالم الإسلامي، وتشعر، كما ذكر لي معلق سياسي تركي، «أن تصوير الغرب لها بأنها الطراز المطلوب للدولة المسلمة يقلص من شرعية الدور الذي تتطلع إليه». وكان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان قال في كلمة له في جامعة أكسفورد الأسبوع الماضي: «أنا لا أحب عبارة: (المسلم المعتدل)، لا أحب الأوصاف. المسلم مسلم». إن اختيار أوباما لتركيا جاء في الوقت الذي تعيد إدارته رسم وجودها في الشرق الأوسط من أجل أن تكثف قدراتها العسكرية في أفغانستان. ولتركيا دور مهم في أفغانستان، لديها تأثير على الأوزبيك (أقلية كبيرة)، وكانت أخيرا استضافت لقاء ثلاثيا جمع رئيسها مع رئيسي أفغانستان وباكستان، ضم ضباطا عسكريين ومسؤولين عن الأمن. ثم هناك مجموعة من القضايا ذات الاهتمام المشترك بين واشنطن وأنقرة يأتي العراق على رأسها.

وضعت الولايات المتحدة استراتيجية الخروج من العراق وتتطلع إلى تركيا لتكون ممر العودة للقوات والآليات الأميركية. هنا، تريد تركيا أن تتأكد من أن الانسحاب الأميركي لن يؤثر على الرغبة التركية في التحكم بطموحات كردستان العراق. ويقول لي المعلق السياسي التركي: «إن تطورات كثيرة ستحدث في كردستان العراق. الرئيس جلال طالباني سيتقاعد قريبا، وسوف تزداد طلبات الأكراد للسيطرة على مدينة كركوك الغنية بالنفط، لذلك تريد تركيا أن تكون واضحة جدا مع الحكومة الإقليمية في كردستان العراق، وأنها لن تتهاون مع أي محاولات لتوسيع إطار الحكم الذاتي للأكراد».

عام 2003 بدأت الأزمة الأولى بين تركيا والولايات المتحدة. لم تؤيد تركيا الغزو، ورفضت السماح للقوات الأميركية بالدخول إلى العراق عبر أراضيها. عام 2007 برزت أزمة أخرى، عندما صوّت البرلمان التركي على دعم التدخل العسكري التركي في شمال العراق لأن أميركا رفضت الإصغاء إلى النداءات التركية للمساعدة على تحجيم وجود وعمليات «حزب العمال الكردستاني» في شمال العراق.

مع تلك الأزمات اعتمدت أميركا سياسة «تخفيف الضرر»، أما اليوم وبسبب الأولويات الأميركية فقد تتحول السياسة الأميركية مع تركيا من «تخفيف الضرر» إلى شبه شراكة حقيقية. زيارة أوباما بداية لهذا التحول، فأميركا تريد أن تستفيد من الدور التركي الإقليمي، وتركيا تريد أن تظهر كشريك أكثر من مجرد حليف ضروري. لهذا قد لا تتردد تركيا في استغلال وجود «حزب العمال الكردستاني» في شمال العراق للتدخل العسكري مستقبلا. وتجنبا لمثل هذه العملية التي قد تعرقل الانسحاب الأميركي، فلا بد للولايات المتحدة من أن تأخذ في عين الاعتبار القلق التركي بالنسبة إلى المسألة الكردية.

مع الأكراد في العراق هناك أيضا إيران، إذ أدت الإطاحة بنظام صدام حسين ورجحان كفة شيعة العراق إلى إعطاء إيران منفذا واسعا لنشر نفوذها في العالم العربي. هي لم تتأخر في تسويق وتلميع هذا النفوذ، ولا بد من أن إيران قلقت من التقارب الجديد بين أميركا وتركيا. وهي في أثناء وجود أوباما في أنقرة، قالت إن موقف الرئيس الأميركي من برنامجها النووي، يعني أن سياسة التغيير التي ينادي بها ليست صحيحة.

في المناورات السياسية، وكذلك في العلاقات غير المتوترة مع العالم، تتفوق تركيا على إيران، ومن المؤكد أنها ستكون فعالة في تحجيم الأهداف التوسعية لإيران في المنطقة. ويلفتني محدثي إلى أن ردة فعل رئيس الوزراء التركي أردوغان في لقاء دافوس، على العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، تأتي بين الطرق التي تعمل عليها تركيا لتفرض دورها القيادي في المنطقة، وتقوّي مصداقيتها لدى السنّة في العالم العربي، ولتمنع المحاولات الإيرانية من الوصول إلى أبعد من حدود إيران. حتى الآن، كانت إيران تنظر إلى تركيا على أنها «إمبراطورية سابقة مثلها»، وأنها الشريك غير العربي في الشرق الأوسط. وكثيرا ما قال معلقون سياسيون، إن المعادلة الجديدة في الشرق الأوسط ستكون قائمة على الثلاثي غير العربي: إيران، تركيا، إسرائيل.

ليس هناك من تنازلات مطلوب من تركيا تقديمها لتقوية العلاقة بينها وبين أميركا، عكس إيران المثقلة بالأحمال «الثورية» و«التوسعية» التي تقلق الدول القريبة والبعيدة، وفي الوقت الحاضر لن يثير التقارب التركي ـ الأميركي مخاوف الدول القريبة، وإذا كانت واشنطن لا تحتاج إلى تركيا للتوسط بينها وبين إيران، فإنها والدول القريبة ستعتمد بقوة على القبضة التركية في المنطقة للحد من النفوذ الإيراني المتشعب. وكأنه كان لا بد من الأخطاء المميتة التي ارتكبتها إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش بحق العالم الإسلامي والعربي والقضية الفلسطينية، كي يبرز دور تركيا الآن كدولة إسلامية ثقيلة الوزن في المنطقة، قادرة، بسبب علاقتها بإسرائيل، على المساهمة في تفكيك بعض عقد الشرق الأوسط. إدارة الرئيس السابق بوش لم تشجع أو تتبنى المبادرة التركية لاستئناف المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية التي كانت بدأت في أثناء حرب تموز 2006 (بين حزب الله في لبنان وإسرائيل)، وتم الإعلان عنها بوضوح عام 2008.

مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة يعتقد البعض بأن هذه المفاوضات ستتعثر، لكن براغماتية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تؤكد العكس. إن تركيا تتطلع إلى إعادة إحيائها في المستقبل القريب، انطلاقا من إدراكها بأنها وإسرائيل والولايات المتحدة وأغلبية الدول العربية، تجمعها مصلحة استرداد سوريا إلى التحالف الغربي، بهدف حرمان إيران من نفوذ كبير في المشرق العربي. بعض السياسيين الأميركيين المخضرمين يتوقعون تحقيق السلام بين سوريا وإسرائيل مع انسحاب إسرائيل من هضبة الجولان (وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بايكر، مساء الأحد الماضي على الـ «سي.إن.إن»)، لكن السوريين علّوا سقفهم وسعرهم مقابل التعاون، يريدون سيطرة سورية على لبنان.

الأميركيون يؤكدون أن لا صفقة على حساب لبنان، وتركيا مصرة على تحريك المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية لتحمي نهائيا جبهتها الجنوبية.

قد تواجه العلاقة التركية ـ الأميركية عراقيل عندما تخرج المصالح المشتركة إلى أبعد من حدود الشرق الأوسط لتصل إلى روسيا مثلا. هناك مناطق تلتقي فيها المصالح الروسية والتركية، إن كان في آسيا الوسطى أو القوقاز حيث علاقات تركيا قوية مع أذربيجان، وجورجيا، وهي الآن تحسن علاقتها بأرمينيا.

حتى الآن لم تقرر واشنطن نوعية التنازلات التي ستقدمها إلى روسيا مقابل تعاونها وإعطائها منفذا للولايات المتحدة عبر آسيا الوسطى، لتوفير طرق إمدادات لأفغانستان، بديلة عن باكستان، وأيضا كي تضغط على إيران.

وبانتظار زيارة الرئيس أوباما إلى روسيا في شهر تموز (يوليو) المقبل، لن يكون واضحا ما ستقدمه واشنطن لموسكو، كما أنه لن يكون معروفا الاستعداد التركي لتحدي روسيا. هناك أكثر من سبب يدفع تركيا وروسيا إلى التعاون وليس إلى المواجهة، وواشنطن كما يبدو تريد في تحركها في أفغانستان ومع إيران أن يشاركها كل حلفائها نفس التطلعات. إن اختيار أوباما لتركيا ليلقي أول خطاب له موجه إلى العالم الإسلامي، هو اعتراف بدور تركيا الإقليمي الذي يكثر من الأصدقاء ويخفف من الأعداء. ستتعرض من دون شك العلاقة لبعض المطبات، لكن الأميركيين يشعرون بأن الإسراع في البدء في تنسيق سياستهم مع تركيا سيخفف من الأعباء الأميركية، ويجعل واشنطن في موقع أفضل لإدارة مفاوضاتها مع بقية الدول الأخرى.