فشل «الحوار» يستوجب الأخذ بأصعب الخيارات الفلسطينية

TT

أكدت النهاية التي انتهى إليها الحوار الفلسطيني، الذي تواصل في القاهرة تحت إشراف المخابرات المصرية لأسابيع عدة، أن المشكلة ليست مشكلة تنظيمين فلسطينيين من المفترض رغم ما بينهما من تعارضات وتناقضات أنهما لا يخرجان عـــن الدائرة الوطنية، بل مشكلة معسكرين إقليميين لكل منهما «أجندته» الخاصة، هما المعسكر الإيراني ـ السوري الذي يضم تحت جناحه حـركة «حماس» والجهاد الإسلامي وبعض الفصائل الهامشية والوهمية الأخرى. ومعسكر العرب المعتدلين الذي يضم «فتح» وكل التنظيمات المتمسكة بمنظمة التحرير الفلسطينية. كان الذين يعرفون الأمور على قناعة تامة بأن هذا الحوار الفلسطيني، الذي تم تحت ضغط الهدنة المستجدة بين الدول العربية التي تعيش حالة استقطاب وتمحور كما كان عليه الوضع أيام صراع المعسكرات والحرب الباردة وربما أكثر، لن يؤدي إلى أي نتيجة وأن المتحاورين سيبقون يلفون ويدورون بدون أي إنجاز، فالقرار الفعلي ليس بأيديهم وحالتهم المزرية هي جزء من حالة التشرذم العربي وجزء من هذا التوتر الإقليمي الذي سببته ولا تزال تسببه إيران في هذه المنطقة.

إنه لا شك في أن مصر التي رعت هذا الحوار قد انطلقت من منطلق الحرص على الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية وأنها بذلت جهودا خيـرة تشكر عليها لإنهاء هذا الانقسام الجغرافي والسياسي والإداري بين غزة والضفة الغربية ووضع الفلسطينيين كلهم بكل فصائلهم وتنظيماتهم الثلاثة عشر على الطـريق المؤدي إلى نيل حقوقهم المشروعة وعدم إضاعة هذه الفرصة التاريخية، حيث العالم كله بات يؤيد قيام دولة فلسطينية متصلة الحدود وقابلة للعيش والاستمرار إلى جانب الدولة الإسرائيلية.

لكن كل هذه المساعي التي قامت بها مصر بقيت تصطدم بالعامل الخارجي، فإيران التي هي لاعب رئيسي في الساحة الفلسطينية والتي هي المالك الفعلي لدولة غزة التي تديرها «حماس» بالإنابة عن الولي الفقيه والجمهورية الإسلامية، اضطرت لبعض التهدئة خدمة للغزل السياسي المستجد مع الولايات المتحدة في عهد الإدارة الجديدة، لكنها في الجوهر بقيت تتمسك بأنها هي الرقم الرئيسي في معادلة هذه المنطقة، وبأنه عليها من خلال حلفائها وأتباعها إفشال الحوار الفلسطيني لشطب الرقم المصري من المعادلة الإقليمية.

بقي المتحاورون الفلسطينيون الذين يعرفون هذه الحقيقة يُوحون من خلال تصريحاتهم وأحاديثهم بأن الأمور تسير في الاتجاه الصحيح وأنهم اتفقوا على معظم ما هو مختلف عليه وأنه لم يتبق إلا بعض القضايا التي ثبت بالنتيجة أنها هي قضايا الخلاف والاختلاف الرئيسية وثبت أن القضايا التي تم التفاهم بشأنها هي مجرد قضايا هامشية وثانوية لا هي سبب الخلاف ولا أساس المشكلة.

لم يـُحرَزْ أي تقدم فعلي، وأصبحت كل جولات الحوار مجرد مضيعة للوقت لكن ورغم القناعة بأن العصي الإيرانية هي التي تحول دون تقدم عجلة المفاوضات الفلسطينية، فقد ساد اعتقاد بأن الاجتماعات التي توقفت عشية انعقاد قمة الدوحة سوف تُستأنف بعد انتهاء هذه القمة وأنها ستكون هذه المرة ناجحة ومثمرة، لكن هذا لم يحصل ولم يتم ولو في الحدود الدنيا، فاللقاء الأخير بين وفد من «فتح» ووفد من «حماس» لم يخرج بأي شيء على الإطلاق وكان الإنجاز الوحيد الذي تحقق هو اتفاق الطرفين على عدم الاتفاق.

بعد هذا الاجتماع البائس والمحبط صدرت تصريحات تقول من قبيل عدم الاعتراف بالفشل أنه تمت خلال يومين مناقشة القضايا العالقة من أجل التوصل إلى وثيقة المصالحة المنشودة وأنه جرى إحراز بعض التقدم! وجرى أيضا طرح مقترحات جديدة طلب الجانبان مزيدا من الوقت لدراستها والتشاور بشأنها، والحقيقة أنه لم يتم الاتفاق على أي شيء بالنسبة لقضايا الخلاف الرئيسية وأنه لم تطرح أي اقتراحات جديدة وأنه لم تعد هناك أي ضرورة لهذه الاجتماعات ما لم يتغير الموقف الإيراني وما لم تشهد المنطقة كلها مستجدات تغير هذا الواقع الحالي كله. لقد ثبت أن التفاوض في كل الجلسات الطويلة التي تلاحقت في مبنى المخابرات المصرية، لم يكن بين قوى فلسطينية في إطار الدائرة الوطنية الواحدة، بل بين دولتين متخاصمتين متباعدتين جغرافيا وسياسيا. وثبت أيضا أن كل ما يهم «حماس» هو الاستفادة من عامل الوقت لتثبيت دولتها في قطاع غزة والسعي بقدر الإمكان لإيجاد مراكز قوى لها في الدولة الأخرى التي هي دولة الضفة الغربية.

أصرت «حماس» إنْ في الاجتماع الثنائي الأخير مع حركة «فتح»، وإنْ في الاجتماعات السابقة على ما اعتبرته «ثوابت وطنية» لا يمكن التنازل عنها، وهي أصرت على أن تكون الحكـومة المنشودة مجرد حكومة تصريف أعمال وألا تلتزم لا بمنظمة التحرير ولا بالتزاماتها، وأن تُسْتَبدلَ هذه المنظمة بمرجعية تكون إطارا قياديا يتولى الشأن الفلسطيني إلى حين إجراء الانتخابات الفلسطينية التي تم الاتفاق على إجرائها في بداية السنة المقبلة.

لا اتفاق على قانون الانتخاب ولا على المرجعية المقترحة ولا على إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية ولا على الحكومة الانتقالية ولا على منظمة التحرير ولا على ضرورة «الالتزام» بالتزامات هذه المنظمة، وفوق هذا فإن أحد كبار قادة «حماس» الدمشقية قد تقصَّد بعد انتهاء قمة الدوحة وفي الوقت الذي كان مــن المفترض أن تُستأنف فيه جولات الحوار المتوقعة على وصف الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) بالرئيس المنتهية ولايته، وهذا يشكل عودة إلى نقطة الصفر وإلى حالة قبل أن يبدأ هذا الحوار الذي لم يُسفر عن أي شيء.

إن هذا هو الواقع وإن هذه هي الحقيقة، والمفروض أن يبادر محمود عباس (أبو مازن) إلى مصارحة الشعب الفلسطيني ومعه العرب والعالم كله بكل ما جرى، وأن يضع النقاط على الحروف ويبين أن القرار على الجانب الآخر ليس قرار «حماس» ولا قرار دمشق أيضا، وإنما قرار إيران التي استطاعت لأسباب كثيرة أن تخترق الساحة الفلسطينية وأن تقيم من خلال حركة «حماس» دولة في غزة تشكل رأس جسرٍ للجمهورية الإسلامية ومنطلقاتها وتطلعاتها في هذه المنطقة وذلك إلى جانب رؤوس الجسور الأخرى في لبنان وفي العراق.. وأيضا في اليمن. لا ضرورة لاستئناف هذه الحوارات والمفاوضات الفاشلة ما دام قرار الفشل والنجاح في يد إيران وليس في يد أيٍ من التنظيمات والفصائل الفلسطينية. والمؤكد أن مصر التي لا يستطيع أيٌّ كان المس بدورها القيادي المؤثر في هذه المنطقة، ليس في مصلحتها أن تستضيف حوارات فاشلة جديدة، ثم وإنه على الرئيس الفلسطيني أن يتصرف على أساس هذا الواقع بسرعة وألا يبقى أسير هذه الحالة المربكة والمزرية.

هناك الآن كلام منسوب إلى بعض المسؤولين في مصر يتحدث عن أنه بالإمكان اتفاق «فتح» و«حماس» على حكومة محايدة تستجيب للشروط الدولية المتعلقة بالعملية السلمية وحل الدولتين وإعمار غزة، وأنه بإمكان هاتين الحركتين تشكيل لجنة تتولى مسؤولية الإشراف على مواصلة الحوارات السابقة، وهذا إذا كان صحيحا فإنه يستدعي أن يتحرك محمود عباس (أبو مازن) بسرعة، وأن يشكل هذه الحكومة، وأن يطلق يدها في التعاطي مع العالم وفقا لما هو مطروح بالنسبة لحل القضية الفلسطينية.

إنه لا بد من التعاطي مع هذا الواقع، فهناك انفصال فلسطيني تجسد في إنشاء دولة غزة، وتجسد أيضا في إصرار حركة «حماس» التزاما بالمصالح الإيرانية على بقاء هذه الدولة، وهذا يستدعي التركيز على الضفة الغربية، مع الاستمرار بالرعاية المعنوية لقطاع غزة، والاستمرار بعملية السلام على أساس حل الدولتين وتشكيل حكومة قادرة على تحمل هذه المسؤولية.