من «المستشار الثالث عشر» إلى الرئيس عمر البشير

TT

الآن وقد حقق الرئيس عمر حسن أحمد البشير اختراقات نوعية مستبقاً حصاراً قد يتعرض له السودان، ويشمل النفط والغذاء والأجواء على نحو ما أصاب العراق الصدَّامي والصِدامي، بات لا بد من نظرة معدَّلة للخطاب البشيري، يأخذ في الاعتبار أنه إذا كان «الإنقاذ» كحزب مستأثر منذ العام 1989 بالحكم مهماً، فإن سلامة السودان والسودانيين أكثر أهمية. وهنا نكاد نخشى أن يصيب أهل هذا البلد ما لا نتمناه لهم.

كانت الاختراقات تعكس حالة الغضب في نفس الرئيس البشير على إخلال بوعود أميركية ناشئة عن طيبة قلب البشير من جهة وتزويقات بعض المستشارين وسماسرة ترميم العلاقات من عرب وأجانب من جهة أخرى. كما أن حالة الغضب تلك ناشئة عن شغف في الوقت نفسه من جانبه بالتحدي ومحاولة دؤوبة لإزالة تهمة ألصقَتْها بشخصه بعض أطياف المجتمع الدولي، ووجدت داخل السودان من يتلطى وراءها لغاية في النفس يحاول المتلطون من خلالها إضعاف هيبة البشير، فيتم الانقضاض على زعامته التي هزت بدعة المحكمة الجنائية بعض الشيء أساساتها، وحملت صاحبها على أن يمارس كل أساليب الشجاعة كي لا يحقق المدعي العام أوكامبو مأربه.

اختار الرئيس البشير أن يكون في منازلته ضد المحكمة مهاجِماً خلافاً لما هو متعارَف عليه في دنيا القضاء والمحاكمات، وهو أن يكون المتهم مدافعاً عن التهمة الملصَقة به وليس لاعب كرة قدم تشهد الملاعب له بجسارة الهجوم، وذلك لأن رئيس المحكمة في هذه الحال سيطلب منه السكوت وترْك الأمر إلى المحامي يدافع عنه. ولكن الرئيس البشير اعتمد الهجوم لأنه يرفض اعتباره متهماً، فضلاَ عن أنه لم يجد حوله من الجيران والأصدقاء من يساند بغير التمني على المحكمة والذين وراءها أن تعلِّق القرار الاتهامي لمدة سنة، وخلالها لا تصدر أحكام رسمية تستتبعها إجراءات قضائية تشرِّع طبيعتها الأمم المتحدة. وفي نظر الرئيس البشير، كان هذا التمني بمثابة سهم أصاب وجدانه لأن معنى ذلك أن التهمة صحيحة والمحكمة الجنائية معترَف بها وأن الرئيس البشير سيكون طوال سنة متهماً مع وقْف تنفيذ الإجراءات في حقه.

هل أفادت الرئيس البشير المنازلة غير المتكافئة؟ وهل أبعدت صرخاته واتهاماته وبينهما رقصاته وقفْشاته وتلويحات عصاه وحشَ المحكمة الفاغر فمه؟

من حيث المبدأ حققت المنازلة تعبئة خففت بعض الشيء من قلب الرئيس، فبات يشعر أنه محروس برأي عام. وهو انتشى بعد الاختراق الحدودي الأول متمثلا بالهبوط جواً في أريتريا التي كان رئيسها أسياس أفورقي في سنوات مضت يشكل الحاضنة للمعارضة السودانية، مقترفاً في هذا التدخل وزراً أشد قسوة على المعنويات من الذي فعله أوكامبو، حيث إنه أجاز لرموز المعارضة تحويل مقر السفارة السودانية في أسمرة إلى غرفة عمليات سياسية وعسكرية لهم لإسقاط «حُكْم الإنقاذ»، واستمرت التحرشات الأفورقية إلى أن ارتضى الاثنان البشير وأفورقي التعايش وفْق صفقة تقضي بأن لا يستعمل كل منهما ورقة المعارضة لإضعاف شأن الآخر وهز أساسات حكمه. ثم تعززت المعنويات بالاختراق الحدودي الثاني متمثلا بزيارة القاهرة التي امتزج فيها التعاطف المصري مع نصيحة من الرئيس حسني مبارك بأن يتروى الرئيس البشير وبأن يختصر الاختراقات لأن الجدوى ليست في كثرتها، وبأن يتفادى ما أمكنه التعرض لبعض المقامات الدولية بالهجوم على أمل إبقاء الأزمة المتعلقة بالمحكمة الجنائية قابلة للأخذ والرد. لكن يبدو أن الرئيس البشير ارتأى المضي في اعتماد أسلوب التحدي النجادي مع اقتباسات لأسلوب هيوغو تشافيز، وهو ما لاحظناه في إطلالات كلامية له سبقت الاختراق الثالث الذي كان أيضا حدودياً ويتمثل في زيارة ليبيا أتبعها وسط تساؤلات وتقديرات وتمنيات واعتصامات وفتاوى تدور في معظمها حول المشاركة أو عدمها في القمة العربية، بالاختراق الأول عبر الحدود ويتمثل بالتوجه إلى الدوحة للمشاركة في القمة العربية الدورية التي كانت الفرصة المناسبة له كي يستبدل فيها التحدي ببعض المرونة وبذلك لا يُحرج القادة المشاركين الذين لا رغبة لهم بالوقوف معه على نحو ما يريد وأن أعلى الممكن هو تضمين «إعلان الدوحة» الفقرة الآتية «نؤكد على تضامننا مع السودان ورفْضنا لقرار الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية بشأن فخامة الرئيس عمر حسن أحمد البشير ودعمنا للسودان الشقيق في مواجهة كل ما يستهدف النيْل من سيادته وأمْنه واستقراره ووحدة أراضيه». وهذه وُقيْفة وليست وقْفة ولن تكون في أي حال موقفاً. والدليل على أنها ليست أكثر من وُقيْفة، أنه كان هنالك إجماع عليها في حين أنه لو كان المأمول اتخاذ موقف لكان حدث انقسام في هذا الشأن ولكان الرئيس البشير سينسحب غاضباً ولكنه ارتضى ما تم التوافق عليه لأنه بالإجماع مع ملاحظة أنه ليس لـ«الرفض» آلية تجعله قادراً على مقاومة «الفرْض» من جانب المحكمة الجنائية.

إلى ذلك إن في غض الطرْف على الاختراق البشيري الأول خارج الحدود بعد الاختراقين الحدوديْين يعود إلى أن المجتمع الدولي لا يريد إحراج أهل القمة العربية، تاركاً لحكمة القادة المشاركين اتخاذ ما يرونه مناسباً من دون أن يعني أن «الرفض» سيطوي صفحة المحكمة، لكنه سيساعد على فُسحة من التهدئة ما دام القادة العرب مجتمعين لم يطلبوا «الإلغاء» مكتفين بـ«الرفْض».

مع ذلك بدا الرئيس المتجنَّى عليه من المحكمة الجنائية حامداً شاكراً العلي القدير، ومِن أجل ذلك كان اختراقه الرابع، وهذه المرة إلى مدينة جدة الثغر البحري المحادِدْ لتوأمه الأحمر بورسودان. ومِنْ جدة إلى بيت الله الحرام لتأدية العمرة وعلى نحو تأدية الرئيس صدَّام لها بعد خروجه من الحرب مع إيران الخميني مثخناً كما الشقيق الإيراني بالجراح المعنوية والعسكرية والمالية، مثقلا بتداعيات الحرب وما تسبَّبت به للمجتمع والتي أوقفها الإمام الخميني على مضض بعد ثماني سنوات، وكَمَن يتجرع السم على حد قوله. ولم يشمل برنامج الهبوط في الأرض السعودية لقاءات رسمية، عدا استقبال محافظ جدة له في المطار، ما دام الرئيس البشير التقى في الدوحة بالملك عبد الله بن عبد العزيز، وما دام الذين رافقوه التقوا بمسؤولين سعوديين آخرين كانوا صحبة خادم الحرمين الشريفين.

العودة إلى الخرطوم كانت عودة الرئيس المكلَّل بـ«الرفْض العربي» المعنوي لقرار الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية وبنجاح الاختراقات الجوية الحدودية والأبعد قليلا مع ملاحظة أن الدوحة شكَّلت أرضاً سودانية رمزية للتوفيق بين «حُكْم الإنقاذ» والدارفوريين الخارجين على طاعة هذا الحكم. ولولا عبارات لافتة صدرت عن الرئيس نتيجة جرعة الإنعاش العربي له، أوردها خلال لقاء مع سودانيي قطر على هامش مشاركته في القمة، لكان جاز القول إن البشير عمل بنصيحة الرئيس مبارك تفادي مقارعة بعض المقامات الدولية، ولكان أيضاً استوقفه استنتاج لافت للرئيس علي عبد الله صالح خلاصته أن من جملة دوافع الرئيس بوش الابن لغزو العراق أن الرئيس صدَّام حسين وضع على مدخل «فندق الرشيد» رسْماً بالموزاييك لوالده (الرئيس جورج بوش) انتقاماً منه لأنه استعاد الكويت التي غزاها (أي صدَّام) منه وفرَضَ عليه من العقوبات ما جعل العراق يسرع الخطى ربع قرن إلى الوراء. لكن العنفوان البشيري المنتعش بـ«الرفض العربي» وبالإجماع جعله يخرج خلال لقائه بأبناء الجالية في قطر على لفْت الانتباه من جانب مبارك له، ويقول أمامهم على نحو ما رواه زميلنا إسماعيل آدم «إن العدالة الدولية كان يجب أن تقتاد جورج بوش على خلفية تدمير العراق وأفغانستان ودعم إسرائيل لقتْل الأطفال.. لكن اللي إختشوا ماتوا».

ماذا بعد الآن في ضوء ذلك؟

هل سيواصل الرئيس البشير التحدي إلى أن يتم من جديد استنساخ عقوبات «الحظْر الجوي»، و«النفط مقابل الغذاء»، و«محاصرة السودان بحراً وجواً» وغيرها من العقوبات كثير، أم يكتفي بالاختراقات التي حققها وتشكل تعويضاً له مستبعداً الاختراق الإيراني الذي سيجعل أسراب الدبابير الدولية تلسع وجوه السودانيين. وأهمية هذا التعويض تكمن في أن قمة الدوحة بعد الاختراقات المشار إليها، كانت تعويماً لحالة ميئوس منها ولوضْع مرشح للاهتزازات من مقياس بالغ الخطوة.

للإجابة أُجيزُ لنفسي تقمُّص شخصية «المستشار الثالث عشر» لأقول من منطلق إلمام ومتابعة بأحوال السودان لم تنقطع على مدى أربعة عقود كان خلالها معظم مستشاري الرئيس البشير الحاليين الاثني عشر على مقاعد الدراسة، وكذلك بدافع الحرص والتعلق على هذا البلد كياناً وشعباً يشهد بذلك كبار القوم السودانيين من عسكريين جنرالات ورُوَّاد ومن سياسيين مدنيين بأجنحتهم الثلاثة اليمينية واليسارية والإسلامية... إنني من هذا المنطلق أُجيز لنفسي أن أتقمص متبرعاً واستناداً إلى محاولات طلب مني في سنوات مضت وخلال أزمات عاصفة، بعض الأقطاب الرأي والمسعى، وأقول في هذا الشأن للرئيس البشير: لقد صمدتَ وسعيتَ وقلتَ من كثير الكلام ما يمكن لبعضه أن يعبئ الصف ولبعضه الآخر أن يكيد الأعداء والمتجنين وأوصلت الأزمة إلى أشقائك العرب فناصروك معنوياً من دون أن يكون في المقدور من ذلك ومن الإكرام تفادياً لإحراجات تصيب المهابة ومن قبل استحقاق الانتخابات العامة عام 2010 بأمل تتويجك رئيساً للدولة، الاستئناس بحنكة الزعيم الأفريقي القنوع نلسون مانديلا وابن بلدك ومؤسستكما العسكرية الكبير زهداً عبد الرحمن سوار الذهب فتقرر الانصراف طوعاً، وبعد أن ترعى في البرلمان مؤتمراً وطنياً تشارك فيه جميع رموز القوى لا فضْل لسوداني على آخر ولا تمييز لواحد دون آخر، في صيغة قيادة للسودان الموحَّد، وقطعاً للمكيدة الكبرى واستباقاً لما قد يكون شراً مستطيراً يبعثر الخطوة الكبرى على طريق إنجاز السلام مع الجنوبيين كأن يرتأى إخواننا هؤلاء ومَن وراءهم انتهاز لحظة هلهلة في الشريك الشمالي فيعلنون قيام دولتهم المستقلة، مِن معالمها افتتاح مصنع للبيرة قبل أيام. كيف ذلك في الدولة الموحدة؟ وكيف سيتحمل السودان الذي أنت رئيسه منذ العام 1989 ذلك؟ وعلى نحو المثل الجزائري الشعبي مع بعض التعديل «عشرون سنة.. بركات».

وتكراراً أنها وجهة نظر «المستشار الثالث عشر» لأن الاثني عشر الآخرين لا يقولون ذلك على الأرجح بمن فيهم صاحب الزلَّة اللسانية الكبرى في شأن «السودانيين الشحَّاتين» صدرت عنه وهو في الرياض التي طالما يردد ناسها كما الشعب السعودي عامة المثل الشعبي العميق المعنى «يا زينك ساكت»، وكأنما لا يتذكر الدكتور المستشار مصطفى عثمان إسماعيل ما تسبَّبت به الزلَّة البشَّارية «أشباه الرجال» والزلاَّت البوشية التي كانت أشبه بالشتائم. نأمل أن يغفر لك الشعب السوداني هذه الزلَّة كما غفر الملك عبد الله بن عبد العزيز للرئيس بشَّار زلَّته، وكما لا بد سيغفر الرئيس مبارك الزلَّة البشَّارية. أما الزلاَّت البوشية فلن تغفرها شعوبنا وبالذات الشعب في السودان والعراق وفلسطين.. لأن الشتيمة كما التجني جرائم لا تُغتفر.