صفقات وأد الاعتدال في لبنان

TT

هل أصبحت قمة الديمقراطية التوافقية في لبنان أن يتحول تحالف «14 آذار» إلى رافعة لأحزاب فاشلة وتحالف «8 آذار» إلى رافعة لأحزاب عميلة؟

خلافا لمنطق الحياة السياسية في لبنان، كدنا أن نصدق أن انتخابات العام 2009 ستكون ـ كما وصفتها قوى «14 آذار» ـ انتخابات «العبور إلى الدولة» ليتضح لنا، قبل أسابيع معدودة من موعدها، أنها انتخابات عبور بعض الأحزاب الفاشلة والعميلة إلى البرلمان بصفقات فوقية تتجاهل قرار الناخب اللبناني.

واللافت على هذا الصعيد أن يتساوى تصرف «14 آذار» مع تصرف «8 آذار».. فكلاهما، في نهاية المطاف، وجهان لعملة لبنانية واحدة.

عند انطلاقتها، لم تخلُ المعركة الانتخابية من طابع المواجهة «المبادئية» ـ معركة دعاة الاستقلال الناجز في مواجهة جماعة التبعية للخارج، معركة أنصار الديمقراطية البرلمانية في مواجهة مؤيدي الأنظمة الأصولية والمركزية.. ولكن ما كادت حمى المعركة ترتفع مع اقتراب انتهاء مهلة تقديم الترشيحات حتى طغت الحسابات الحزبية الضيقة على أي اعتبار مبدئي آخر لتحوّل المعركة «المصيرية» إلى بورصة صفقات حزبية ـ طائفية، رغم «اجتهاد» الجميع في تأكيد ولائهم للتيارين المتواجهين («14 آذار» و«8 آذار»).

ولكن المقلق أن الرابح الأكبر من تداولات بورصة الصفقات ـ سواء داخل تحالف 14 آذار أو تجمع 8 آذار ـ هو الأحزاب المسيحية التقليدية، والخاسر الأكبر المرشح المسيحي المعتدل والمستقل عادة.

أن يتساوى مسيحيو «14 آذار» مع مسيحيي «8 آذار» في تحميل حلفائهم غير المسيحيين مسؤولية إحياء نفوذهم الانتخابي في دوائر أصبح فيها رميم ظاهرة قد تعكس التبدلات الديمغرافية في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية.. ولكن الأحزاب المتلطية اليوم وراء مسيحيتها لم تكن بريئة من هذا التبدل. وتكفي العودة بضع سنوات إلى الوراء ليتذكر اللبنانيون أن هذه التنظيمات هي نفسها التي فجرت الحرب الأهلية عام 1975 وجنت على جمهورها قبل غيره في لبنان.

واقعيا، لا جدال في ضرورة تصحيح التمثيل المسيحي في البرلمان اللبناني بعد أن شوهته ثلاثة عقود من الوصاية السورية. ولا جدال أيضا في أن استقرار الوجود السياسي المسيحي ضمانة لوجه لبنان المميز داخل الأسرة العربية، وإلى حد ما، ضمانة لديمقراطيته البرلمانية (طالما بقي البرلمان حصيلة اتفاق محاصصة طائفية).

ولكن التسليم بهذه المعطيات لا يحول دون الملاحظة بأن معظم التيارات والأحزاب المتلطية اليوم وراء مسيحيتها تنظيمات من مخلفات الحرب الأهلية اللبنانية: منغلقة الأفق، تقليدية المنحى، يمينية التوجه إلى حد يبرر نعت بعضها بالشبه فاشستية.

إلا أن السؤال الأساسي يبقى: هل أصبح دور أحزاب وتيارات اليمين المسيحي التقليدي قطع الطريق على وصول مرشحين مسيحيين معتدلين وليبراليين إلى الندوة البرلمانية؟

صحيح أن نظام التمثيل الانتخابي في لبنان يفترض قيام تحالفات انتخابية لا تخلو من صفقات طائفية، وصحيح أن تقسيم الدوائر الانتخابية يحابي، بحكم الواقع الديمغرافي، طائفة معينة على حساب طوائف أصغر عددا في العديد من الدوائر الانتخابية، وصحيح أن هذا الخلل في التمثيل الشعبي يصعب أن يستقيم في غياب نظام تمثيل نسبي يحدد بواقعية حجم كل الأحزاب والتيارات اللبنانية بعيدا عن المؤثرات الديمغرافية في دوائرها والتبعات السياسية للتحالفات الظرفية.

ولكن ذلك لا يعني أن التمثيل المسيحي في لبنان أصبح حكرا على حزبين أو ثلاثة أحزاب تقليدية لا لسبب إلا لأنها مسيحية.. ليس فقط لما يمثله هذا المنحى من تشويه للتمثيل الشعبي بل لما قد يفرزه من انعكاسات سلبية على السفح الآخر من الهرم الطائفي في لبنان والذي يحتضن، هو أيضا، تنظيمات متطرفة من لون مختلف، فمن سنن الحياة السياسية، أينما كانت، أن التطرف السياسي يولد تطرفا مماثلا في مواجهته.

..هل هذا هو لبنان الذي تؤسس له الصفقات الانتخابية اليوم؟