أوباما.. والشيزوفرينيا الإيرانية

TT

وقعت حادثتان في لاهاي الأسبوع الماضي أوضحتا جهود إدارة أوباما الحثيثة للحصول على مجرد ابتسامة من طهران.

جاءت كلتا الحادثتين على هامش مؤتمر مانحي المساعدات الدولية لأفغانستان.

في أولى الحادثتين نجح ريتشارد هولبروك، مبعوث الرئيس أوباما الخاص لأفغانستان وباكستان، في مصافحة نائب وزير الخارجية الإيرانية مهدي أخوندزادة.

نقلت آلة الإعلام في وزارة الخارجية الأميركية ذلك الخبر على أنه أول اتصال بين الخصمين، ونقلته لوسائل الإعلام كإشارة على أن سياسة الاحتواء أتت بثمارها. غير أن الإيرانيين ردوا على ذلك بالإنكار بأنه لم تكن هناك مصافحة، لكن أحد المسؤولين الإيرانيين البارزين ضمن الوفد الذي حضر مؤتمر لاهاي اعترف بأنه ربما يكون الرجلان قد تصافحا لكنه أصر على أن أخوندزاده ربما لم يكن يعرف هولبروك. وقال المسؤول: «صافح نائب وزير الخارجية العديد من الشخصيات، وربما يكون هولبروك قد اغتنم الفرصة دون أن يقدم نفسه».

أما الحادثة الثانية فكانت في إعلان وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، عن إرسال خطاب إلى الإيرانيين، ومرة أخرى أنكر الإيرانيون ذلك قبل الاعتراف بأنهم ربما يكونون قد تسلموا خطابا دون معرفة الجهة المصدرة له.

ربما يكون قد تم التغاضي عن الحادثتين على أنهما نوع من الدبلوماسية الهزلية إن لم تكونا دليلا على سوء فهم خطير من الجانب الأميركي.

وقد تجلى سوء الفهم ذلك في تصريح كلينتون بأن إيران «جزء من الحل» في كل من أفغانستان والعراق. والمشكلة هي أن السيدة كلينتون لا تبدو مدركة أن العالم كان يتعامل خلال الثلاثين عاما الماضية مع دولتين إيرانيتين. إحداهما إيران القديمة، تلك التي كانت مسالمة إلى حد بعيد والتي ظلت على وضعها لما يقرب من 500 عام.

أما إيران الثانية فهي مركبة لثورة الخميني وأحلامها بغزو العالم.

وقد عانت إيران خلال فترة ما بعد الثورة من انفصام في الشخصية تجلى في صراع مصالحها كدولة مع مصالحها كثورة. وقد فشلت كل المحاولات في حل المشكلات مع إيران عبر المفاوضات لأن القوى الخارجية كانت تعلم ماهية إيران التي تتعامل معها. وفي ذات الوقت يمنع انفصام شخصية إيران من اتخاذ القرارات الضرورية الحاسمة حتى في الوقت الذي تكون فيه المصالح القومية للبلاد على المحك. إحدى تلك القضايا أن إيران كدولة جزء من الحل في الوقت الذي تمثل فيه جزءا من المشكلة بكونها ثورة.

يتطلب الأمر إلقاء بعض الضوء على قضايا العراق وأفغانستان. فمما لا شك فيه أن إيران كدولة يجب عليها أن تضطلع بدور في إرساء الاستقرار في العراق. فأكثر من 90% من العراقيين يعيشون داخل 120 كيلومترا من الحدود مع إيران، وهناك ستة ملايين كردي ومليونان من الأقلية العربية الذين تربطهم صلات قرابة ونسب مع العراقيين الشيعة والأكراد. أما غالبية المدن التي يطلق عليها «مدن مقدسة» فتقع في العراق. ولأن العراق دولة مغلقة، فلن يكون بإمكان العراق تأمين منفذ بحري دون الموافقة الإيرانية. وتتقاسم الدولتان حقول نفط حدودية تحوى كميات ضخمة من النفط لا يمكن لإحداهما تطويرها بمفردها. والقائمة تطول في ذلك.

غير أن إيران كثورة تنظر إلى ما هو أبعد من القضايا العالمية وترى العراق أرضا خصبة للأيديولوجية الخمينية، ويمكن أن تقدم الجمهورية التي يسيطر عليها الشيعة في بغداد للنظام الحاكم الذي يحتضر في طهران، عودة جديدة للحياة. والخمينية ككل الثورات إن لم تنمُ خارج حدودها الحالية فإنها ستذبل وتموت.

وترى الكثير من التقارير التي تغطي أنباء العراق الكثير من الأمثلة للوجود الإيراني المزدوج والمتناقض هناك. ففي بعض الأماكن تستثمر إيران الدولة في بناء المدارس والمستشفيات للفوز «بقلوب وعقول» العراقيين في المناطق الشيعية في العراق، وفي أماكن أخرى تقوم إيران الثورة بدعم الإرهابيين لتدمير المدارس والمستشفيات كوسيلة للإبقاء على العراق غير مستقر وإرغام الأميركيين على الانسحاب. وخلال عام 2007 كانت دولتا إيران في حرب ضد بعضهما البعض في البصرة، فإيران الدولة كانت تعمل على الأشياء بينما إيران الثورة كانت تعمل على تفجيرها.

نفس السيناريو يتكون في أفغانستان.

فإيران كدولة تعد ثاني أكبر مانح لأفغانستان ومن ثم فإن لها مصلحة قوية في استقرارها قدر الإمكان، غير أنها كثورة تعد ثاني أكبر داعم لطالبان والمتمردين البشتون الآخرين ومنهم قلب الدين حكمتيار، بعد باكستان.

وقد دأب إسماعيل خان المجاهد السابق والذي حكم إقليم هيرات لسنوات عدة على إبداء تعجبه من المسلك الإيراني. وكطاجيكي يتحدث اللغة الفارسية، تمتع خان بدعم كبير من الدولة الإيرانية التي أملت في تسليحه لمواجهة طالبان في التسعينيات. غير أنه في ذات الوقت أبدى تعجبه من قيام إيران الثورة بتسليح وتمويل خصومه في الإقليم.

وقد منع انفصام الشخصية الإيرانية الدولة خلال العقود الثلاثة الماضية من تطبيع علاقاتها مع العالم الخارجي وحل عدد من المشكلات من أن تتصرف بعقلانية كانت ستتعامل بها مع ذلك منذ مدة طويلة. وقد توافقت مصالح كلتا الدولتين الإيرانيتين في بعض القضايا وهو ما لم ينتج عنه مشكلة، غير أن عددا من القضايا المحورية شهد تضارب مصالح الإيرانيتين ومن ثم لم تتمكنا من صياغة سياسة موحدة.

وأهمية إيران كدولة بالنسبة للولايات المتحدة ترجع إلى النجاح في استقرار العراق وأفغانستان، الأمر الذي سينعكس على تحسن الأمن الإقليمي والذي تعتبره كل الدول أولوية. غير أنها كثورة، ترغب إيران في رؤية الولايات المتحدة وهي تخرج من الدولتين في ذل حتى تتمكن من تقديم رسالتها الخمينية كبديل إلى المنطقة ككل.

يقول أوباما إنه يرغب في الحديث مع طهران، لكن القضية هي: أي الدولتين الإيرانيتين التي سيتحدث معها؟

السياسة الجديرة بالثقة تجاه إيران هي تلك السياسة التي تهدف إلى المساعدة في امتصاص خبرتها الثورية للعودة بها كدولة.

والسلام مع إيران الدولة ليس ممكنا فقط، بل هو حتمي أيضا.

والسلام مع إيران الدولة غير مرغوب فيه ومستحيل أيضا.

واحتواء إيران الثورة سيؤخر عودة إيران الدولة ومن ثم يؤخر آمال السلام.