الحضارات من الحوار إلى الائتلاف.. والسياسات التركية الجديدة

TT

يوم الثلاثاء الماضي انعقد بإسطنبول المؤتمر الثاني لائتلاف الحضارات أو تحالفها، بعد المؤتمر الأول الذي انعقد بمدريد عام 2005 بدعوة من رئيسي الوزراء الأسباني والتركي. وإذا كان المؤتمر قد انعقد بعد هجمات مدريد، وفي ذروة الحرب على الإرهاب، وما سُمي «صراع الحضارات»؛ فإن المؤتمر الثاني هذا، والذي حضر جانبا منه الرئيس الأميركي أوباما، انعقد في أجواء مختلفة تماما، وتغص بالأحاديث عن الأخوة الإنسانية والوفاق الدولي، والحب الزائد بين الإسلام والغرب، ودور تركيا وإسلامها المعتدل في الوصول إلى كل ذلك. فهل جاء المؤتمر الثاني هذا ليتوج مساعي انتقلت بالصراع إلى الحوار فالائتلاف بين «الحضارات»، أم أنه شأن خاص بتركيا التي تتلاقى اليوم مصالح كبرى غربية وإسلامية وعربية من حولها للقيام بدور جديد وكبير؟!

الاحتمال الثاني هو الأقوى والأرجح والماثل للعيان. أما الاحتمال الأول الذي ما يزال الجميع يُعنْونون به فالأرجح أن يتضاءل بالتدريج إلى حدود التناسي والزوال خلال فترة قصيرة، بعد أن تراجع دعاته وأنصاره ودواعيه. فقد دأب عدة مفكرين، من مختلف الأمم والثقافات، ومنذ ظهور مقالة هنتنغتون في خريف العام 1993 عن «صراع الحضارات» على إدانة هذا المصطلح، وإدانة الممارسات التي بعث عليها وأفضتْ إليه. قال هؤلاء إن «الحضارات» ليست وحدات منفصلة متفاصلة تنشب بينها نزاعات أو تسْري فيها الحوارات؛ بل هي ثقافات وبِنَى طويلة المدى، ولا تتنافس أو تتصارع في ما بينها، بل تتقابس، ويأخذ بعضها من بعض، ولا تزيل إحداها الأخرى بل تتداخل ويتأسس بعضها على بعض. أما الصراعات فتنشب بين الدول والأمم والشعوب ولأسباب اقتصادية أو سياسية أو استراتيجية، وليس لأسباب ثقافية أو حضارية. أما الذين يعطون للصراعات الناشبة معنى ثقافيا أو دينيا فإنهم يقصدون إلى إخفاء الأسباب الحقيقية، حتى لا يشعروا أو يشعر مواطنوهم بالذنب، ولحشد الدعم والتأييد تحت عناوين ذات جماهيرية شعبية. وأبلغ الأدلةِ على ذلك أن حروب القرن العشرين العظيمة إنما جرت داخل حضارة واحدة وبين دولها وأممِها ولأسباب سياسية واقتصادية واستراتيجية. وحتى الأبعاد الأيديولوجية التي أُعطيت لها (الشيوعية ضد الليبرالية!) إنما جاءت لاحقا لتغطية الأسباب الحقيقية. وها هي الشيوعية قد زالت من روسيا، ومع ذلك فإن التنافسات والتهديدات بالصواريخ والنوويات ما تزال قوية وحاضرة وبين مسيحيين وأهل حضارة واحدة!

إن الطريف وذا الدلالة في الوقت نفسه أن شعارات الشيطان الأكبر ومحور الشر ذات المعاني والظلال الدينية والثقافية، إنما استُخدمت منذ البداية من جانب الرئيس رونالد ريغان ضد الاتحاد السوفياتي. وقد انجر للمشاركة ضد «الأشرار» البابا الكاثوليكي رافع شعار الإيمان والحرية، كما انجر إليها الإسلاميون الذين ذهبوا إلى أفغانستان لمقاتلة الكفر الشيوعي. وهكذا فإن الرئيس ريغان إنما استخدم السلاح وحرب الفضاء والمسيحيات البروتستانتية والكاثوليكية لإسقاط الاتحاد السوفياتي وهو خصمه في الحرب الباردة. أما الخصومة في الحرب الباردة، فما أتت بالتأكيد نتيجة الصراع بين الإيمان والكفر، ولا حتى بين الليبرالية والاستبداد، بل لأسباب وعوامل اقتصادية وسياسية واستراتيجية. وقد استخدم ريغان شعارات دينية وثقافية لزيادة درجة التحشيد وتصعيده إلى جانب العسكر الضخم والترسانة النووية و«حرب النجوم». وعندما سقط الاتحاد السوفياتي، رأت جهات كثيرة جدوى استخدام الشعارات الدينية والثقافية، فاستخدمَتها ضد الخطر الأخضر والإسلام، وانصرفت للتنظير لها بصراع الحضارات، وبالحرب العادلة. وسلك الأصوليون الإسلاميون السبيل نفسها في «الجبهة ضد اليهود والصليبيين»، مما دفع طارق علي وإدوار سعيد للذهاب إلى أن ذلك الصراع المهول كان بين الأصوليات وليس بين الحضارات. أما الحرب الفعلية فقد جرت بعد إيهامات الوعي في الواقع وعلى الأرض من أجل الهيمنة، بدليل أن منظّري إدارة بوش كانوا يفكرون (وفي ذهنهم ما جرى عام 1990 من حرب على العراق لافتتاح حقبة الهيمنة) في غزو العراق ثانية قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001.

فخلاصة الأمر أن «الهيمنة الأوحدية» التي كانت وراء تلك الحروب كلها، ووراء ردود الأفعال عليها، إنما كانت خروجا على قواعد النظام الدولي، وعلى استقرار البشر وأمنهم وسلامهم. وما تقوم به الإدارة الجديدة هو تعبير عن إرادة الرجوع إلى القواعد وإلى الاستقرار وإلى الوفاق والسلام. وقد عبرت مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز لحوار الأديان والثقافات عن ذلك كله عندما بدأت الأمر في «مؤتمر مكة» وبيانه الذي أكد على أن الدين الإسلامي لا يقول بالصراع بين الأديان، ثم كانت وثيقة مدريد مع الجهات الدينية والثقافية الغربية والآسيوية، والتي أسقطت أوهام الصراع ذي الأصول الدينية والثقافية، لينتهي الأمر بالمؤتمر في الأمم المتحدة والذي قال فيه الملك عبد الله بن عبد العزيز وأكثر المشاركين الآخرين من الرؤساء إن الصراعات والحروب علتها انعدام العدالة، وإرادات الهيمنة والتسلط، وإن المطلوب الحل العادل لقضية فلسطين، والانتصار لقضايا الحرية والعدالة والسلام في العالم.

وما دخلت تركيا في صراعات الولايات المتحدة أيام بوش رغم أنها حليفة لأميركا في الأطلسي. وقد حاولت التوسط والتهدئة في كل اتجاه. وبذلك فقد أهلت نفسها للعب دور بارز في العهد الجديد على مستوى أميركا ومستوى العالم للوفاق والعمل الدبلوماسي، من أجل السلام. وهذا هو السبب الحقيقي للجوء الولايات المتحدة إليها من أجل الإسهام في إعادة الهدوء والاستقرار من جهة، وفي إزالة الانطباع الذي نشأ لدى العرب ولدى المسلمين (وهو حقيقي) عن معاداة السياسات الأميركية للعرب وللمسلمين، وإلا فلماذا تغزو ديارهم، وتنشر قواعدها فيها، وتترك إسرائيل وخصومها يتبادلون الضربات وينشرون «الفوضى البناءة» في سائر الأنحاء؟!

على أن التأهل التركي، ولكي يحاط بهالة تتلاءم مع مقتضيات الوعي العام، وفي الشرق كما في الغرب، ظل له جانبه الديني والثقافي. وهو جانب دعائي وإعلامي جيد، وإن تكن حدوده معروفة. فحزب العدالة والتنمية الحاكم بتركيا حزب إسلامي. وهو لا يقول بالعنف لا بالداخل ولا تجاه الخارج. ولذا فإن شعاراته المسالمة والمعتدلة تشكل جاذبا مغريا لأهل المنطقة من جهة (والذين عانوا من أصولية وهيمنة السياسات الأميركية، كما عانوا من شعارات وسلوكيات أصولياتهم)، وللجمهور الغربي الذي دخل في وعيه أن المسلمين عنيفون وعدوانيون. وهكذا انعقد مؤتمر «ائتلاف الحضارات» في إسطنبول، الذي كرر فيه أوباما شرح سياساته الودودة تجاه المسلمين والإسلام، وكرر في الوقت نفسه إرادته التصدي للمشكلات الحقيقية بين الولايات المتحدة والمسلمين، وهي بالطبع ليست حضارية ولا ثقافية. قال إنه يريد العمل على حل المشكلة الفلسطينية على أساس إقامة دولة مستقلة للفلسطينيين. كما يريد الانسحاب من ورطات بوش بالعراق وبأفغانستان، والعمل مع شعوب تلك المناطق وأنظمتها من أجل إحلال السلام والاستقرار. فالاحتلال والاضطراب والهيمنة والفقر، هذه جميعا هي أسباب الصراع، وليس الخصومة بين الحضارتين الغربية والإسلامية. وهنا أيضا تبرز تركيا باعتبارها موديلا للأطراف التي تريد المشاركة بالفعل في النظام العالمي الجديد. فهي دولة مسلمة في غالبية شعبها. وهي دولة ديمقراطية، أي أن نظامها عميق في ارتباطه بالديمقراطيات الغربية الأخرى، والتي يتحالف معها منذ أواخر الأربعينات من القرن الماضي!

لكن، ولأن الصراعات والتجاذبات ليست ذات أصول حضارية وثقافية أيضا وأيضا، فإن تركيا رغم نموذجيتها شعبا ونظاما، ورغم أهميتها البالغة والاستراتيجية للغرب الأوروبي، فإن الأوروبيين الكبار سارعوا للرد على أوباما عندما دعا لإدخال تركيا في الاتحاد الأوروبي! فيا أيها الأوروبيون المشاركون في مؤتمر تحالف الحضارات وائتلافها، إذا كانت الحضارات مؤتلفة لهذا الحد، وإذا كانت تركيا يسودها نظام مثل أنظمتكم، وإذا كانت جغرافيا واستراتيجيا جزءا من أوروبا، وإذا كانت حليفة استراتيجية لكم في الأطلسي منذ آماد وآماد، فلماذا لا تقبلون أن تكون عضوا في الاتحاد؟!