الصحافة المكتوبة.. ووهم البديل الإلكتروني

TT

التأم في الكويت الملتقى الإعلامي العربي السادس، الذي يشرف عليه صديقنا الصحافي المتألق ماضي الخميس، بحضور جمع متميز من نجوم الحقل الإعلامي العربي. وكما هو متوقع هيمن على اللقاء الناجح هاجس الأزمة المالية الراهنة التي تركت أثرها السلبي على وسائل الإعلام إجمالا وفي مقدمتها الصحافة المكتوبة. ولم يكن من المستغرب أن تتكرر النغمة السائدة هذه الأيام بأن عهد الصحافة المكتوبة قد ولى إلى غير رجعة، وأن المستقبل كله للإعلام الفضائي والإلكتروني. والمفارقة الغريبة هنا هي أن الكويت التي احتضنت اللقاء ظهرت فيها في الآونة الأخيرة عشرات العناوين الصحافية الجديدة من بينها ما يزيد على عشرة يوميات بدأت تنافس الجرائد العريقة، مما ينم عن الحاجة الموضوعية الدائمة إلى الصحافة المكتوبة. وتلك هي الظاهرة ذاتها التي نلمسها في العديد من الدول العربية الأخرى، كالبحرين والمغرب ومصر.. وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن أن ننكر أن الصحافة المكتوبة تتعرض لتحديات ومصاعب حقيقية، وصلت إلى حد الكارثة في الدول الغربية ذات التقاليد الإعلامية العريقة.ففي 30 أيلول (سبتمبر) الماضي أشرف الرئيس الفرنسي ساركوزي على المنتديات العامة حول الصحافة المكتوبة التي شارك فيها كل المعنيين بالحقل الصحافي من مالكي صحف ورؤساء تحرير وصحافيين وشركات إعلان وتوزيع. وقد عرض أمام المجتمعين تقرير شامل من مائة صفحة أطلق عليه «الكتاب الأخضر حول الصحافة المكتوبة في فرنسا» يشكل وثيقة شديدة الأهمية في تشخيص الأزمة القائمة وسبل حلها. وقد اعتبر التقرير أن وضع الصحافة المكتوبة وصل إلى أقصى درجات التردي، وأرجعه أساساً إلى عوامل ثلاثة ترتبط بالثورة الرقمية الحالية هي: انبثاق ثقافة اللحظة العابرة، وتزايد العرض المجاني الذي يبرز في المواقع والمدونات الإلكترونية التي غدت منافساً شرساً للصحافة الورقية، وتحول سوق الإعلان التي لم تعد تركز على الصحف بعد أن تقلص انتشارها. وخلص التقرير إلى أن «نموذج المكتوب» يمر بأزمة حقيقية، لا يمكن اختزالها فقط في تغير الوسائط التقنية للاتصال.

تزامن التقرير مع إعلان صحيفة «لوموند» العريقة (صحيفة النخب الفكرية والسياسية) عن الاستغناء عن ثلث محرريها، في الوقت الذي أوشكت صحيفة ليبراسيون التي أسسها جان بول سارتر على التوقف لولا تدخل رجل الأعمال اليهودي إدوارد روتشلد الذي اشترى قرابة 40 في المائة من أسهمها، مما حولها من صوت اليسار المتعاطف مع قضايا العالم الثالث إلى صحيفة لا لون لها ولا طعم. ولم تكن يومية «لوفيغارو» بأحسن حظاً، بل إن الشركة التي تصدرها (سوسو برس) كما تصدر 70 عنواناً آخر اشتراها تاجر السلاح المشهور سرج داسو. في الوقت الذي اشترى تاجر سلاح آخر هو أرنو لاغاردير شركة هاشيت التي تصدر 47 مطبوعة من بينها أهم المجلات المتخصصة في فرنسا. وليس الوضع في بقية البلدان الأوروبية وفي أمريكا أحسن مما هو قائم في فرنسا. فقد أعلنت مؤخراً صحيفة «نيو يورك تايمز» العريقة أنها اضطرت إلى بيع نصف بنايتها للتغلب على أزمتها المالية الطاحنة، كما قررت الاستغناء عن مائة من محرريها، وهي اليوم معروضة للبيع على رجل الأعمال المكسيكي كارلوس سليم (إمبراطور الاتصالات). وذهب السيناتور الديمقراطي بنجامين كاردين إلى القول: «نحن سائرون نحو ضياع صناعتنا الصحفية، مما سيكون مأساة حقيقية على ديمقراطيتنا».

وما نبه إليه السيناتور الأمريكي من تأثير أزمة الصحافة المكتوبة على الممارسة الديمقراطية حقيقة لا غبار عليها. فالمعروف أن نمط الصحافة المكتوبة ارتبط بقوة بالثورات السياسية التي شهدتها البلدان الغربية في اتجاهين بارزين هما وتجسيد حرية التعبير والرأي، التي هي المبدأ الأول في الديمقراطيات الحديثة من خلال خلق مجال تداولي مفتوح، والإسهام في بناء وتدعيم سلطة الرقابة والمحاسبة التي هي السلطة المكملة والموازية للسلطة السياسية . ويرى رجيس دوبريه مؤسس علم «المديولوجيا» أن الصحافة أخذت بالفعل محل الكنيسة، فأصبحت السلطة الروحية في المجتمعات الغربية الحديثة، من حيث هي المعبرة عن المعتقد الجماعي المشترك كما يتشكل في ما يدعى بالرأي العام. والمشكل القائم راهناً هو أن الإعلام الإلكتروني الذي يكثر الحديث عنه لا يمكن أن ينافس الصحافة المكتوبة في هذا الدور، لأنه بقدر ما يخلق من وهم سيولة اتصال بدون قيود، يموه ويشوش شروط حوار جدي وعقلاني من خلال الثقافة الاستعراضية السريعة التي لا تقدم معلومة ولا تنتج فكراً. ولذا فإن كان الفضاء الإلكتروني يعد وسيطاً تقنياً مهماً للاتصال والإنتاج المعرفي، إلا أن الثقافة الإكترونية لا يمكنها تعويض الصحافة المكتوبة التي تظل الأفق الأنسب للحوار الجاد والمجال الملائم للعمل الإعلامي المحترف.