بدو يا رسول الله

TT

خرجت (أتريض) على ضفاف إحدى البحيرات في جنوب النمسا، وكنت وحيداً وشبه شريد، وغير (ممتن) لا من الدنيا ولا من الناس، والشيء الوحيد الذي كنت راضياً عنه على الأقل أنني في ذلك الوقت كنت متصالحاً مع نفسي، لهذا فقط خرجت معها أتريض، وألقمها بين الفينة والأخرى بعض أصابع شيكولاتة (الكيت كات).. وبينما كنت في ذلك الجو المشرق المفعم بالحبور.. وإذا بسرب من طيور البط تعبر فوق رأسي متجهة للبحيرة بمرح لا يقل عن مرحي، وإذا بها جميعاً تغطس في الماء دفعة واحدة، وبعد عشرين متراً تخرج جميعها دفعة واحدة، محدثة نوافير متطايرة من رشاش الماء، ثم تنقلب وتعبر فوق رأسي ويتقاطر من أجنحتها بعض رذاذ الماء الذي يبلل ملابسي، ولا تلبث إلاّ أن تعود مرّة أخرى وتغطس ثم تخرج من صفحة الماء.

كررت هذه اللعبة ما لا يقل عن ثماني مرات، ولولا أنني أخاف أنكم لن تصدقوني، لحلفت لكم بالله أنني شاهدت مناقيرها وهي تبتسم، وعرفت أنها تسلي نفسها وتلعب.

وحسدتها من كل قلبي على سعادتها ورجعت على وجه السرعة إلى فندقي الذي هو على البحيرة، بعد أن حققت أعظم إنجاز في يومي ذلك، كيف لا؟!، وقد تعلمت من تلك البطات كيف تكون لذة الحياة.

وما إن وصلت حتى خلعت ملابسي دفعة واحدة، وارتديت المايوه، وعدت ركضاً للبحيرة، وقذفت نفسي فيها وغطست وطلعت خمس مرات فقط، لأن السادسة كادت أن تقضي على حياتي بعد أن (تشبصت) ساقي، وشرقت بالماء، ونفرت الدموع من عيني.

وعرفت وتيقنت ساعتها أنني لست ببطة، وليس لي جناح يطير، ولا منقار يبتسم.

* * *

تقابلنا في الشارع وتسالمنا ومشينا نتجاذب أطراف الحديث، وعندما حاذينا أحد الفنادق الفخمة الموسومة (بسبعة نجوم)، قال لي: ما رأيك أن نشرب (آفتر تي), وهو تقليد لشرب الشاي في أواخر العصر. دخلنا إلى الصالة الرحبة الفخمة، وشرب كل منا قدحاً من الشاي مع قطعة كاتوه، وعندما طلب رفيقي الحساب، وإذا به يساوي قيمة (ذبيحة مع توابعها) في بلدنا، فسأل رفيقي الغرسون إن كان متأكداً من الرقم، فقد يكون هناك بعض الغلط ؟! غير أن الغرسون أكد له صحة ذلك الرقم، ثم بدأ يعطيه بعض الدروس قائلاً: إن هذا الثمن لا يقتصر على الشاي والكاتوه فقط، ولكن ألا ترى تلك اللوحة المعلقة هناك إن ثمنها (95) ألف جنيه، وهذه الشمعدانات التي تشاهدها على الأركان قيمة كل واحد منها أكثر من (50) ألف جنيه، وهذه السجادة العجمية التي تحت أقدامكم قيمتها أكثر من (130) ألف جنيه، وأخذ يعدد، وقبل أن ينتهي من كلامه قلت لزميلي ادفع ادفع وإلاّ خرجت وتركتك معه.

فدفع وهو يشتم باللغة العربية، وقبل أن نخرج من باب الفندق التفت إليه قائلاً: بدو يا رسول الله.

* * *

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من لانت كلمته وجبت محبته.

صحيح، ولكن ليس في كل وقت.

[email protected]