الظلام الجميل

TT

سنّت استراليا سُنة حسنة بأن استحدثت حركة بيئية عالمية أطلقت عليها مسمّى: (ساعة الأرض)، وذكر أن قرابة مليار شخص شاركوا فيها هذا العام، ونظمت هذه الحركة عبر 25 منطقة زمنية تبدأ من جزر (تشاتام) في نيوزيلندا، وهي أول منطقة يبدأ معها شروق الشمس في كل يوم جديد، وتنتهي في المنطقة الزمنية الغاربة في المحيط الهادئ.

وقد شاركت بعض البلاد العربية في هذه التظاهرة الحضارية عندما أطفأت الأنوار لمدة ساعة كاملة.

هذا ظلام اختياري، ولكن ما رأيكم بمن غزاه الظلام رغم أنفه، وذلك عندما كنت ضيفاً على أحد المعارف في مزرعته النموذجية خارج مدينة الطائف، ولكن قبل أن أحكي لكم ذلك، إليكم هذه الجملة الاعتراضية التساؤلية: - هل لاحظتم أنني دائماً أكون الضيف ونادراً ما أكون المضيف؟ّ! -، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنني أنتمي بشكل أو بآخر لسلالة الصحابي الجليل (أشعب) - والله أعلم -

المهم، بينما كنت جالساً أتسامر معه (ونحش) في عباد الله، وإذا بالتيار الكهربائي ينقطع فجأة، ومعه التلفزيون بكل راقصاته الجميلات، وتصمت الثلاجة عن الأزيز، ويسود الظلام الحالك والسكون المطبق على المكان، وأخذت أتخبّط إلى أن وصلت الباب وفتحته، وإذا بالمنطقة كلها تغرق بالظلام والسكون.

هل تصدقون أن صدري انشرح لهذا (الأتمُسفير) الذي افتقدته من زمان، وبدأت عيناي وجوارحي تتعود على هذا الجو الغريب الخلاّب، مثلما يتعود القط عندما تتسع حدقتا عينيه، أحسست فعلاً أن حدقتي عينيّ اتسعتا، ورأيت الهضاب والأشجار وكأنني أشاهدها لأول مرة بلونها الداكن العميق، وسمعت أصواتاً كأنني أسمعها لأول مرة، من نقيق ضفدع، إلى عزف صرصور من صراصير الحقول، إلى صيحات طائرين من طيور الليل لا أدري إلى أين هي ذاهبة أو مهاجرة، إلى هبوب الرياح وهي تلعب بثوبي.

ورفعت رأسي للسماء متأملاً الغيوم المتهادية في رحلتها الأبدية التي لا تتعب وهي متنقلة في أرجاء الأرض الأربعة، وفجأة وإذا بها تنقشع عن وجه البدر المكتمل الذي سكب شعاعه الفضي على أرجاء المكان، فلم أتمالك نفسي وانطلقت أركض بدون ما هدف مثلما يركض أي طفل سعيد بحياته.

إنه شعور لا يشترى بالعملة الصعبة، ولا حتى بالملايين، ولم يقطع عليّ (تبتّلي) هذا، إلاّ صوت مضيفي وهو يناديني قائلاً: أين أنت ؟!، فقلت له لا شعورياً: إنني أسبح في ملكوت الله.

رجعت له وكل ملامحي تبتسم وكأنها توجه لكمة عنيفة للحزن والشقاء، ورأيته جالساً في الخارج وحوله ثلاث شمعات، وطلبت منه بتوسل أن يطفئها، ورضخ لمطلبي، فما كان مني إلاّ أن أحضرت حزمة من الحطب وأشعلتها، ولولا أنني خفت منه أن يتهمني بالجنون لرميت نفسي في أتون اللهب المتأجج الذي أضفى على المكان سحراً وجمالاً لا يصدقه عقل، كنت أتأمل ذلك وكأنني أتأمل أجمل لوحة في حياتي لأبرع فنان.

وفجأة وإذا بأقسى صفعة أتلقاها عندما عاد التيار الكهربائي الجشع والبشع، فخلعني من سعادتي التي كنت فيها وكأنه يخلع أحشائي من داخل جوفي.

ولكن لا يكون انقطاع التيار الكهربائي دائماً جالباً للسعادة، فأحياناً يكون جالباً للمصائب مثلما حدث في 13 يوليو عام 1977 عندما انقطعت الكهرباء عن (نيويورك) بكاملها، فعاثت فيها العصابات تخريباً..

ويقال إنه بعد (تسعة أشهر) من تاريخ تلك الليلة التعيسة، استقبلت المستشفيات أكبر نسبة من المواليد في تاريخها - ولا أدري إلى الآن لماذا ؟! - أعطوني الجواب الشافي لكي أرتاح.

هل تعلمون لماذا ؟!، لأنني في تلك الليلة بالذات كنت في نيويورك أنام وحيداً في غرفتي التي يلفها الظلام الدامس.

[email protected]