شوية نقط.. لعبد الله بك..

TT

في الخمسينات، خسر الدكتور عبد الله اليافي معركته السياسية في بيروت. وطغت عليه زعامة الساحر صائب سلام. ولم يعد يكلف برئاسة الحكومة. وكان رجلا فاضلا ومحامياً قديراً، لكنه شعر أن الحياة بعيداً عن السياسة مريرة لا تطاق. وثمة من نصحه، أو ربما هو نصح نفسه، بأن أفضل السبل لاستعادة المواقع هو إصدار صحيفة يومية تعبّر عنه وتنكل بخصومه وتعارض سياسات الرئيس كميل شمعون الذي أسقطه في الانتخابات وأفقده مقعده البرلماني في بيروت في عملية تزوير واضحة.

كثيرون نصحوا الرئيس اليافي بالعكس. ما لك والصحف. إنها خزان ماء مثقوب. سوف تحدث لك خلافات وأوجاع رأس. أنت اليوم تتحمل مسؤولية ما تقول لكنك غداً سوف تتحمل مسؤولية ما يكتبه محرر الشؤون الفنية، ومسؤولية الأخبار القضائية. دعك من هذا الصداع الذي لا يداوى بحبة أسبرين.

لكن الرجل اشترى ترخيصاً باسم «السياسة» واستأجر مكاتبه واشترى مطابع وسلم رئاسة التحرير إلى الزميل الراحل أسعد المقدم. وراح أسعد يكتب مقالا افتتاحياً يومياً وعبد الله بك يكتب مقالا أسبوعياً، أو غبّ المناسبة. وكان شائعاً يومها تقليد محمد حسنين هيكل في الكتابة السياسية وإحسان عبد القدوس في الكتابات الأخرى. وكان هيكل - وظل حتى الانصراف - يضع ستة أو أربعة أسطر من النقاط، يوحي بها أن ما كل ما يعرف يقال. وكان عبد القدوس يضع الأسطر نفسها عندما تصل الرواية إلى باب المخدع أو حديقة مزرعة الباشا. وامتلأت الصحف اللبنانية نقاطاً على السطر وفوقه وتحته. في بداية الكلام وفي نصفه وبعد آخره.

لكن المشكلة التي واجهتها «السياسة» لم تكن فقط سوء التوزيع وحسن الخسائر المادية بل إنها تُصَفّ على الأحرف باليد. وعدد الأحرف مثل عدد النقاط محدود. وواجهت أزمة كبرى قبل أن تغلق، وهي أن صاحبها ورئيس تحريرها يكتبان بغضب وكل منهما يعبر عن غضبه بنقطتين على الأقل بعد كل كلمة: استقل.. يا شمعون.. يا.. خائن.. العروبة العظيمة و... إذ... هب إلى.. بيتك.

ذات يوم صدف أن كتب الرجلان معاً. وكان كلاهما غاضباً. ووقعت المطبعة في أزمة: هل تحذف من نقاط رئيس الوزراء أم رئيس التحرير؟ وفي النهاية صعد مدير المطبعة إلى الزميل المقدم وقال له متوسلا بلهجته البيروتية: دخيلك يا أستاذ، بدنا شوية نقط لعبد الله بك.