ونحن أيضا.. لسنا في حرب مع أميركا

TT

«دعوني أقول بمنتهى ما أستطيع من الوضوح: إن الولايات المتحدة ليست ولن تكون أبدا في حرب مع الإسلام. فالحقيقة هي أن شراكتنا مع العالم الإسلامي حاسمة ومهمة جدا، ليس فقط في صد مفاهيم العنف التي يرفعها الناس من جميع الأديان، بل أيضا لتعزيز الفرص لجميع بني البشر. وأود أيضا أن أكون واضحا من حيث أن علاقة أميركا بالمجتمعات الإسلامية والعالم الإسلامي لا يمكن أن تكون ولن تكون قائمة على مجرد مقاومة الإرهاب، فنحن نسعى على أساس المصالح والاحترام المتبادل، وسنصغي باهتمام وعناية، ونمد جسور التفاهم ونسعى في سبيل إيجاد أرضية مشتركة، سنبدي الاحترام حتى عندما لا يكون هناك اتفاق بيننا، وسنظهر تقديرنا العميق للدين الإسلامي الذي قدم الكثير والكثير على مدى القرون لبناء هذا العالم وتشكيله، بما في ذلك بلدي بالذات. فقد أثرى المسلمون الأميركيون الولايات المتحدة، وهناك كثير من الأسر الأميركية بينها أفراد مسلمون أو عاشوا في بلدان إسلامية، وأنا أعلم هذا لأنني واحد منهم».

هذه فقرات (رسمية) من نص خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما أمام البرلمان التركي.

وأول لقطة يلتقطها الذهن من خطاب أوباما هذا هي (التواضع الجم)، يتبدى ذلك ـ مثلا ـ في قوله (سنصغي باهتمام وعناية). فهذا رجل يتصل بالعالم ـ ومنه العالم الإسلامي ـ لكي يتعلم من خلال الإصغاء الجدي لما يقوله الآخرون، لا لكي يخاطب الآخرين عبر منصة الأستاذية والتلقين والإملاء!

وفي سياق منقبة التواضع هذه: لحظ الناس (التحية الخاصة) التي حيا بها الرئيس الأميركي أوباما: العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز في إطار لقيا الرجلين في قمة العشرين في لندن.. وهي (تحية خاصة) حقا تجلى فيها (تواضع) الرئيس الأميركي من خلال الصورة التي أظهرت ذلك وطالعها العالم كله، وهي صورة ذات دلالات عديدة منها: التواضع (بداهة).. واحترام الآخرين.. وكسب الناس لا خسارتهم.. ومحو صورة العجرفة والاستعلاء التي استفزت الكثيرين ـ في العهد السابق ـ وتسببت في كراهية أميركا، وتشويه صورتها: السياسية والأخلاقية والحضارية. والملك عبد الله بن عبد العزيز أهل لهذه التحية النادرة، فهو رجل محترم وموثوق به على مستوى عالمي، بيد أن التحية موجهة ـ في الوقت نفسه ـ إلى البلد الذي يقوده ويدير شؤونه.

إن أي زعيم ـ في عالمنا وعصرنا ـ يريد أن يقيم علاقات وثقى وكريمة مع العالم الإسلامي، فإنه ملتق ـ ولابد ـ مع السعودية، ومتواصل معها، ومقدر لمكانتها بالضرورة، لماذا؟.. لأن تاريخ الإسلام وحضارته ارتبطا بجغرافية المملكة العربية السعودية: جغرافيتها الطبيعية، وجغرافيتها البشرية. ففي هذه الجغرافيا تنزل القرآن، وفيها بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفوق هذه الجغرافيا قامت أول دولة للإسلام.. وفي هذه الجغرافيا (قبلة) المسلمين في الصلاة، وفيها مؤدى فريضة حجهم. فما من مسلم ـ أنى كان وحيث كان ـ إلا وهو مستقبل هذه القبلة في صلاته، وإلا وهو (مفروض) عليه أن يأتي إلى بلاد الحرمين حاجا.

ولم يك ذلك مجرد ذكريات تاريخية كانت ثم نسيت، إذ لا يزال السعوديون ـ قيادة وشعبا ـ يتمثلون هذه المواريث الدينية والحضارية، ويحافظون عليها، ويتصلون بالعالم الإسلامي من خلال روابطها التي تتجدد دوما، ولا تتقادم قط.

نعم.. نحسب أن أوباما كان يقدر هذا (الدور السعودي) الجليل النبيل ويحييه تحية خاصة من خلال تحيته الخاصة للعاهل السعودي.. وليس يُشترط (اتحاد الدين) في تقدير هذه المكانة فهي (مكانة موضوعية( حقيقية يقتضيها النظر إلى الأمم بـ (المقياس الحضاري) البحت.

وفي خطاب الرئيس أوباما (محور) ثقيل الوزن، صريح المفهوم والعبارة : ينبغي أن يستأثر ـ وحده ـ بسياق المقال الآتي كله. فقد قال أوباما: «إن أميركا ليست ولن تكون أبدا في حرب مع الإسلام».. وإذا كانت أداة النفي (ليست) تعني الحالة الراهنة، فإن أداة النفي (لن) تنفذ إلى المستقبل وتستغرقه.

وهذا تفكير راق وعقلاني ومسؤول، يتوجب الترحيب الصدوق به.

وأول الترحيب وأوضحه وأصدقه هو: ونحن المسلمين لسنا في حرب مع الولايات المتحدة الأميركية، لماذا؟

أولا: لأن القاعدة العظمى في منهج الإسلام ـ في العلاقات الدولية ـ هي (السلام) لا الحرب.. نعم هي: السلام.. السلام.. السلام، ترليون مرة. والتكرار مقصود به: ترسيخ المفهوم الإسلامي.. ثم نقض مفاهيم الذين يظنون أن الأصل في العلاقة مع الآخرين هو: الضرب والحرب والقتال وإراقة الدماء وجعل العالم في حريق دائم.

ثانيا: تربط أميركا بالعالم الإسلامي (كله تقريبا) عهود ومواثيق دولية عامة، وثنائية خاصة.. ومن حقائق الإسلام القطعية الثبوت والدلالة: أن الوفاء بالعهود: واجب الأداء ناجزه، وأن حالة الحرب متناقضة ـ مضمونا وتوقيتا ـ مع موجبات الوفاء بالعهود. ولذا كان من خصال المنافق: «.. وإذا عاهد غدر..» وفق نص الحديث النبوي.

ثالثا: إن (الخلاف في الدين) ليس موجبا للقتال والحرب والقتل بحال من الأحوال.. وإلا ماذا يفعل (الموجبون) بنصوص قرآنية صريحة مثل قول الله جل ثناؤه: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي».. وقوله عز وجل: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم».. وقوله تبارك اسمه: «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين».. فهذه النصوص مانعة من الحرب بسبب مجرد (الخلاف في الدين).. ولقد اعترف الإسلام بوجود أهل الكتاب وأقر ورتب على ذلك أحكاما معروفة في العلاقة والتعامل. ولو كان (الخلاف في الدين) موجبا للحرب والقتال والقتل، لما بقيت الأقليات المسيحية واليهودية في العالم الإسلامي حتى اليوم، ولاسيما في حقب قوة المسلمين. ثم لو كان الخلاف في الدين موجبا للقتل لتعين على المسلم الذي يتزوج مسيحية: أن يبيت النية ـ لحظة خطبتهاـ ليس على العيش معها بمودة (بنص الآية 21 من سورة الروم)، ولكن أن يبيت النية على اغتيالها في ساعة الخلوة، في مساء العرس!!

رابعا: لسنا في حالة حرب مع أميركا، لأن هذه الدولة لم (تحاربنا في الدين): بدليل أنه يوجد ـ في هذا البلد ـ ألوف المساجد والمراكز والدعاة الذين يدعون إلى الإسلام ويشرحون عقائده وشرائعه للناس: بحرية، في ظل القوانين المرعية، وهي قوانين منبثقة ومضبوطة بالتعديل الأول للدستور الأميركي والذي يلزم الجمهورية بألا تتبنى دينا، ولا تعادي دينا.

ولئن قيل: إن في أميركا من يعادي الإسلام ويحاربه، قلنا هذا صحيح بلا ريب، ولاسيما في ظل إدارة سابقة كان يوحي سلوكها بمعاداة الإسلام.. وعلى الرئيس أوباما وإدارته التنبه إلى هؤلاء الغلاة الأميركيين الذين يفسدون علاقة أميركا بالعالم الإسلامي.. وعلينا نحن ـ كذلك ـ أن نتنبه للغلاة عندنا الذين لا يتصورون نصرة الإسلام إلا على أنقاض أميركا!!

وربما تمنى هؤلاء: أن تكون لديهم (قوة قصوى للإبادة) لكي يبيدوا أميركا من الوجود.. وهذه أمنية مريضة نشأت في غيبة (منهج النبوة) عن فكر هؤلاء وضمائرهم. فقد أتيحت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فرصة إبادة مشركي قريش الذين آذوه أيما إيذاء، بيد أن النبي الرحيم اللطيف أبى ذلك: أبى إطباق جبلي مكة العظيمين على المعاندين المعتدين الوثنيين!!

ثم إن كلمة (نحن) - في العنوان - تُقرأ (نحن المسلمين) كما تُقرأ (نحن السعوديين) من حيث أن السعودية دولة قامت على الإسلام ، ومع ذلك أقامت علاقة (سلام) و تعاون و تبادل منافع على أمد طويل مع أمريكا. وفي ظل هذه العلاقة: لا نحن تنازلنا عن مبادئنا، ولا أمريكا حاربتنا بسبب هذه المبادئ.. ولا عبرة بالقلة النشاز هنا و هناك.