تعددت وسائل الإعلام والمصداقية واحدة

TT

عصر ثورة المعلومات مكنني الاستمرار في مناقشة بدأتها أثناء رحلة جوية عن الصحافة، بعد افتراقي عن بروفيسير أميركي منشغل بدراسة مقارنة الإعلام بين أوروبا وأميركا والبلدان العربية، رغم فصل المحيط الأطلسي بيننا. وأجد البريد الالكتروني (وبقية وسائل الانترنت في الاتصال النصيtexst وليس الشفهي النطقي/السمعي) افض سبيل المناقشة.

شكل تبادل الخطابات، تاريخيا، جانبا أساسيا في تطوير المفكرين والعلماء لنظرياتهم عبر العصور؛ واختصرته الانترنت، من أسابيع طويلة لتبادل المعلومات عبر الأطلسي إلى أقل من الثانية (غرف الدردشة جعلت المناقشة حية وسمها وضع المشاركين في «غرفة واحدة»).

الجدل كتابيا وسيلة راقية في تطوير وتعديل وجهات النظر، اعتبرها مقياسا لارتقاء الفرد لمرتبة المفكر (القائد الفكري) أو بقائه كتابع أعمى ذهنيا، يقبل عقيدة أو فكرة «كحقيقة» ثابتة «يحرم» مناقشتها ولا يتحرك قبل تفسير من أمسك بمفاتيح ذهنه (زعيم/رئيس عمل).

جدل المواجهة الفوضوية (كحواريات الفضائيات) حيث تتغلب العواطف على المنطق، لا يساهم في تطوير فكرة أو اكتمالها، باضطرار المجادل للخروج عن مسار الفكرة ردا على المقاطعات.

واعتدت (وأفضل) تبادل المناقشة كتابيا بالبريد الالكتروني لأكثر من ربع قرن (استخدمت صحفنا الجيل من أنظمة الانترنت منذ 1982 قبل علنية الشبكة العالمية world-wide-web في التسعينات). فالتدوين يرتب الأفكار، وتراجع وتعدل قبل إرسالها. وغالبا ما أعود لمجموعة رسائل تبادلتها فأصبحت مرجعا أرشيفيا غنيا بالمعلومات عن حدث تاريخي.

وقبل أيام توسعت مناقشتي مع الباحث الأميركي لتشمل زملاء متعددي الجنسيات حول دور الإعلام في المجتمع. مدرستي الكلاسيكية لا ترى للإعلام دورا يتجاوز نقل الأخبار صحيحة للناس، كسلعة أو خدمة، يتذوقها المستهلك الإعلامي (القارئ/المستمع/المتفرج)، فيقدر مدى تناسب جودتها مع ثمن حصولها عليها. وهذا، عندي، السبب الرئيسي في حرية الصحافة كسلطة رابعة.

لكن منتقدي الصحافة الغربية (من العالم الثالث المؤمنين بشعارات الثورات الشمولية كأميركا اللاتينية والقومجيين والإسلامويين العرب) ويروجون لفكرة « قيام الصحافة بدور وطني» وهو تبرير لملكيتها لا للدولة، أو سيطرتها عبر الحزب الحاكم، وإخضاعها للرقابة، فتصبح مجرد وسيلة «علاقات عامة» ترويج إنجازات الزعيم القائد الملهم (وغالبا وصل الحكم بطرق غير مشروعة).

الصحافة البريطانية تحولت هذا الأسبوع إلى كلب صيد، فريسته المطاردة الأولى كانت الساسة (والكلمة تعني عندنا نواب البرلمان) بمن فيهم منتمون إلى أحزاب يؤيدها أصحاب الصحف.

وظفت الصحافة قانون حرية المعلومات للتفتيش في الملفات المالية للساسة، والاطلاع على الإيصالات والفواتير التي طالبوا بالتعويض عنها: «كمصاريف نثرية وضرورية» لإنجاز العمل السياسي، خاصة مع اضطرارهم (باستثناء نواب لندن) للتنقل المستمر بين دارين للإقامة.

مقر النائب في دائرته الانتخابية ويشمل الدار، والمكتب (ويعرف بالعيادة surgery)، حيث يلتقي فيه بالمواطنين، وآخر في لندن لزوم حضور جلسات مجلس العموم واللجان البرلمانية. وإلى جانب مصاريف الانتقال بين الاثنين تتحمل الخزانة (التي تمولها ضرائب المواطنين) تكاليف أثاث منزل لندن، وإيجاره وبقية فواتيره.

وتصيد الصحفيون الساسة الذين تلقوا مصاريف نثرية، قد لا تخرق اللوائح حرفيا، لكن اعتبرها الناس امتيازات لا يتمتع بها المواطن العادي؛ (كمطالبة أحد المسؤولين بـ88 قرشا ثمن سدادة بانيو الحمام، وثمانية جنيهات فاتورة مشاهدة فيلمين عن طريق الكابل؛ ومطالبة أعضاء جهة أخرى بنصف مليون جنيه مصاريف سفر «لتقصي الحقائق»، في أماكن «تصادف» أنها سياحية ترفيهية). دافع الصحفي هنا غريزة الاستكشاف ومعرفة ما يحاول الساسة إخفاءه وليس دورا سياسيا أو أخلاقيا اجتماعيا (فهذا دور المدرسة والأسرة ورجال الدين).

وسائل إعلام مملوكة لشركة نيوز انترناشيونال (التايمز، الصن، شبكة سكاي والراديو وصحف محلية) لم يتدخل صاحبها روبورت ميردوخ، وهو المؤيد الأول للحكومة، لوقف حملة صحفه في إحراج ساسة الحزب الحاكم.

ومردوخ ليس راهبا في معبد حرية الكلمة، بل رجل أعمال براغماتي يريد ترويج بضاعة شركته بجاذبية الخبر للمستهلك الإعلامي (خبر المسؤول يثير سخريته، بينما يثير خبر الجهة الأخرى غضب القارئ). وبالمقابل لم تستثن الصحف التي يؤيد كبار حملة أسهمها المحافظين، نوابهم من حملة التفتيش المخيفة.

الأحداث دليل على أن ثقافة حرية السوق الرأسمالية تفرض مفهوم السلعة الإعلامية، وتجبر الصحفي على الحياد والانحياز لمفهوم واحد: كشف كل حقائق الموضوع الذي يتابعه. وهذا ما يضمن حرية الصحافة واستقلالها وليس القوانين، فلا يوجد هنا أية قوانين تنظم الصحافة ولا يتطلب إصدار صحيفة في بريطانيا ترخيصا أو إذنا من إحد.

فريسة الصياد الصحفي الثانية هذا الأسبوع كانت بوليس العاصمة. السبب تناقضات البيان الرسمي للبوليس عن موت رجل بسكتة قلبية أثناء مظاهرات الاحتجاج ضد قمة العشرين، مع فيديو التقطه سائح على التليفون الموبايل لشرطي دفع الرجل بغلظة. وشهدنا «معجزة» تطابق «رأي الصحيفة» في إعلام الصفوة المثقفة، يسارا كالغارديان والاندبندنت (والب بي سي)، ويمينا كالتلغراف، والديلي ميل (وشبكة سكاي الميردوخية)، مع «راي الصن» والأخيرة أوسع صحف «العامة» انتشارا وتبحث عن الإثارة، (ويحتقرها المثقفون) ـ ولا أذكر انتقادها للبوليس سوى مرة واحدة في 18 سنة.

دوافع الصحافة ليست أخلاقية وإنما مهنية، بتقدير محرر ديسك الأخبار (بخبرته الطويلة) لأهمية الخبر بالنسبة لمستهلكي الإعلام، فالقاسم المشترك الأعظم بين الناس على اختلاف ألوانهم السياسية طبعا، هو الثقافة القومية (الانجليزية). ثقافة تأييد الأضعف والمظلوم، وتقديس حرية المواطن، وازدراء العنف، (الجماعي لأقلية بين المتظاهرين، والفردي من جانب الشرطي)، والإعجاب بالشجاعة الفردية في قول الحق (ملتقط الفيديو). واجتماعها كلها في خبر يهم هذا المستهلك يعني زيادة التوزيع والبث.

وسائل الاتصال الحديثة وأهمها الانترنت كوسط وتليفون الموبايل كأداة (أرسل السائح الفيديو لصحيفته «المفضلة» أي وثق بها «كسلعة» أهم مواصفاتها المصداقية) جعلت من المستهلك الإعلامي رقيبا على ممارسات أجهزة الدولة لنشاطها اليومي، ومصدرا للخبر وأحيانا «بطل» القصة الصحفية.

ثقافة ثورة الاتصالات في مجتمع مفتوح أجبرت الصحافة (منتج سلعة) على تطوير أدائها لتوظيف الإنترنت بدلا من منافستها (رفض نشر الفيديو سيدفع بصاحبه لبثه على شبكة «يوتيوب» مع ذكر رفض النشر قد يفقد الصحيفة مصداقيتها العمومية).

ولذا فتطور الإعلام بهذا الشكل وراءه أسباب مهنية/ اقتصادية لا مواقف أخلاقية بطولية.. وهذه الأسباب لضمان لحرية التعبير في النظام الرأسمالي، لا تجدها في أنظمة شمولية، بعضها يحرم استخدام، أو شراء الموبايل، وتخضع فيه الصحافة لرغبة مالكها: الدولة أو الحزب (الثوري) الحاكم.