بمناسبة الشتائم في الشعر الجديد

TT

ما يسمى «قصيدة النثر» أنا أعطيه مصطلح «وتريات»، وقد كتبتها منذ الستينيات لأهرب من اللت والعجن فيما هو «شعر»، ومن نماذجها ما نشرته في كتابي الأول «رومانتيكيات»، دار الهلال 1970، بعنوان «سوناتة حب غير منطقي» و«ماري أنطوانيت دي بنتاجون» و«شروق في حدقة معتمة»، وما تضمنه كتابي «تلابيب الكتابة»، دار الهلال 1994، بعنوان «وميض الاكتئاب». ترعرع هذا النوع الجديد من الشعر في مصر على يد مجموعة من الشباب وقد التصقت به، للأسف، لافتة «قصيدة النثر» غير المنطقية، ولمع من خلال هذا الشكل الجديد عدد من الشعراء البارعين مثل: عماد أبو صالح وإيمان مرسال ومحمد أبو زيد وغيرهم، ولبخ، بالطبع كما يحدث في كل أنواع الفنون، آخرون ممن لا يملكون الموهبة. هذا الشعر له أصوله عند الأديبة الشاعرة «الآنسة مي» منذ مطلع القرن العشرين، ورواده في بلاد الشام أبرزهم الماغوط، ومعظمهم متولد من عباءة الشاعر أدونيس. لست بصدد التأريخ لهذه الموجة الجميلة من الشعر الذي يتميز بخفة الظل وشدة الاستفزاز، أردت فقط بمناسبة الشتائم التي انهالت عليه في مؤتمر للشعر عقد بالقاهرة، ورأسه الأستاذ أحمد عبد المعطي حجازي، أن أحيي الشاعرة إيمان مرسال مندوبة عن أقرانها الذين أصدر الأستاذ حجازي، الشاعر سابقا، قرارا بإبعادهم وعدم الاعتراف بخفق قلوبهم!

إيمان مرسال شاعرة مصرية تعيش في كندا مع زوجها وطفليها، مولودة في المنصورة 30 نوفمبر 1966، قابلتها مرة واحدة قبل مغادرتها مصر، ولن أقول هجرتها، وذلك قبل سنوات، في ندوة استفزازية لمجموعة من الفيمينزيات (الأنثويات) قالت فيها أستاذة كبيرة إنها أضاعت عمرها في رعاية زوجها وأولادها ولولا هذا الضياع لتضاعف إنتاجها الأدبي. في تلك الندوة قلت شيئا لا أذكره، لكنه كان سببا في تصدي فتاة شابة لترد قولي بلغة رأيتها متجاوزة لأصول المخاطبة اللائقة، فما كان مني إلا أن ردعتها بكلمات أردت أن تعيدها إلي صوابها. فانكمشت الفتاة وبدا عليها الغضب مع الخصومة. هذه الشابة كانت الشاعرة إيمان مرسال. أيام وشهور وسنوات شالتنا وحطتنا، وإذا بصوت ودود يهاتفني: أنا إيمان مرسال، وهكذا تم اللقاء الثاني خلال زيارتها لمصر في إجازة انتهت مع يناير 2008. نحيلة كما كانت يوم خاصمتها وخاصمتني، منذ ما لا يقل عن 18 سنة، وقد فعل فارق عمرها، من شابة في عشرينياتها إلي مطلع أربعينياتها، فعله في تفضيلها السماحة قبل الجهامة، وتقديمها الاعتراف بحق الاختلاف علي الإنكار وسن أسنان العداء. استطلعنا مناطق الخلاف والاختلاف الناتجة، بطبيعة الحال، من مرحلتين عمريتين، بينهما 29 سنة، ومن زوايا فكرية متباعدة شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، ومع ذلك وجدنا مساحة مشتركة وقفنا عليها هي، بالدرجة الأولي، رفضنا للركاكة والكتابات الرثة و«القرديحي». لإيمان مرسال مجموعة من الكتب، احتوت ثلاثة منها علي أشعارها: «اتصافات» 1990، «ممر معتم يصلح لتعلم الرقص» 1995، «المشي أطول وقت ممكن» 1997، أهدتني منها «ممر معتم....» و«المشي.. »، حصاد مشاعرها وتجاربها وتحدياتها في سن العشرين ومطلع الثلاثين: المرحلة النموذجية لكتابة الشعر.

تقول إيمان مرسال إن شعرها «مدني». لم أفهم، فراجعتها: ماذا تقصدين؟ أجابت، ولم أفهم، لذلك لا أستطيع أن أنقل إجابتها. الحقيقة أنني لم أفهم أبدا تصنيفات مثل: «يمين» و«يسار» فكيف يمكن أن أفهم «مدني» و«غير مدني»؟ في البداية تصورت أن «مدني» يقابلها «عسكري» أو «حكومي»، ثم تبين لي أنني في هذا الأمر بريئة جدا إلي حد السذاجة، فالمسألة ليست بكل هذا الوضوح، ومن ثم قررت أن أزيح عني كل العناوين واللافتات والتصنيفات وآخذ الشيء بذاته أفهمه وحيدا من قناة الصدق. شعر إيمان مرسال مؤكد أنه «شعر»، وصادق حتى في كذباته، وأهم شيء أنه خفيف الظل، حتى دموعه ترسم الابتسامة، تقول إيمان: «في قطارات شرق الدلتا/ تعودت أن أختار سيدة مناسبة/ تفتح لي خزانة تعاطفها، عندما أخبرها بموت أمي وأنا في السادسة/ في الحقيقة حدث هذا وأنا في السابعة/ ولكن السادسة تبدو بالنسبة لي أكبر تأثيرا/ فالأمهات في منتصف العمر يدمن الحزن/ ربما لتبرير حداد سابق لأوانه/ والرتوش البسيطة أثناء الحكي/ لها سحر/ لن يفهمه أبدا/ من لم يضطر لسرقة حنان الآخرين». وتقول في قصيدة العتبة: «نعم/ كنا علي وشك توطيد علاقتنا بالميتافيزيقا/ لولا أن أحدنا كان يداري جمجمته/ تحت قبعة فاخرة/ فبدونا لهم علي هيئة سائحين/ حتى إن بائع التوابل سار خلفنا/ وهو يردد: والنبي stop / والنبي wait!» فقرات عديدة استوقفتني في الكتابين، وليس بالضرورة أنني توحدت معها، أعجبت بها من منطلق موضوعي يعترف بالاختلاف، مثل هذا المقطع الذي أختم به كلامي: «يوما ما ستتلبسني الحكمة/ ولن أذهب إلي الحفل/ وسيكون علي أن أؤرخ لحريتي/ بتلك اللحظة/ التي لم أعد فيها مدينة لآذانكم!».