العراق: نصف استقرار.. نصف ديمقراطية

TT

قبل ما يقارب الخمس سنوات بدأت كتابتي بمقالة الرأي في هذه الصحيفة، ومن المفارقة اللافتة المدللة على شمولية النظام السابق أنني لم أعرف بصحيفة اسمها «الشرق الأوسط» قبل سقوط النظام السابق، رغم أني باحث وتدريسي في العلوم السياسية وهذه مجال اهتماماتنا المفترض، كون أن بلدنا كان محاطا بأسوار عالية ولا يتيح لإنسانه أن يطلع أو يتلقى إلا ما يضخ له النظام من رؤى ومواقف وأدلجة، فلم نكن نعرف إلا ثلاث صحف محلية متماثلة عزفنا عن قراءتها لسنين، مع غياب وجهل مطبق بالانترنت، وحجب ومنع للفضائيات حتى كان الذي يضبط بأنه يمتلك الصحن اللاقط يسجن لستة أشهر في سجون الأمن، فلم نطلع على أي بث مرئي غير الإعلام الرسمي الحكومي إلا في الأسابيع الأخيرة من عمر النظام عندما بدأت تتحلل قبضته وينكسر حاجز الخوف. لذا فإنه إذا كان لسقوط النظام في التاسع من نيسان، والذي مرت ذكراه السادسة منذ أيام، من منافع وثمار فلا شك أنها في فضاء الحرية الذي أشاعه وفي الديمقراطية التي أسسها، وأنا هنا متصالح مع نفسي ولا أدعي بسبب خشية من الجو الديماغوجي الذي ألفناه خلاف ذلك، كما يظهر وبمغالطة ونكران جميل أغلب من هم في سدة الحكم والذين كانوا ليموتوا في المنافي دون أن يحلموا لا بأن يحكموا العراق، لا بل حتى بأن يدفنوا فيه، لولا لحظة التغيير تلك، حيث بدون ذلك لم تكن هناك من فرصة ولو حتى متخيلة بأن يلج العراق عتبة الديمقراطية إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، والخليط المنتج لهذه الاستحالة عناصره بينة، من نظام شمولي همجي، إلى معارضة تعاني من الاختلالات والشرذمة والضعف، إلى مجتمع منقسم ومتشقق، إلى بيئة إقليمية رافضة للتغيير، وفي ظل تصارع دولي يوفر البدائل والأغطية.

لا شك أيضا أن حظ هذه الديمقراطية من الثناء سيكون قليلا ونادرا ودائم الانحسار بسبب من ضخامة الضحايا والكلف البشرية وحجم الدمار المرافق وكمية الأمن المضيع وحالة العدم استقرار التي استطالت زمنيا وجغرافيا، وبكون الآمال قد تبددت في قيام دولة ديمقراطية حديثة في العراق ذات اقتصاد حر ومتطور بنفس الطريقة التي تغيرت بها اليابان وألمانيا خلال الاحتلال العسكري الأميركي لهما بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية.

إلا أنه عند وضع هذه المقاربة واستنتاج الفشل يلحظ بأنه يتم نسيان الشروط والظروف الموضوعية، فرغم الزهو والأمل بالغد فإنه سيبدو من الشطط أن توصف الديمقراطية في العراق بأكثر من أنها واعدة، وهذا يعني أنها بحاجة إلى الكثير من الصبر والرعاية وإلى التواضع في التوقعات منها، بسبب أن الظروف الذاتية والموضوعية المحيطة بها مختلفة، فسجل الديمقراطية عندنا بلا شك فقير إذ إن الشعب هنا لم يعرف الديمقراطية يوما على طول تأريخه وبالتالي لا يوجد له رصيد في ممارستها، وبالقطع انعدمت عنده التنشئة الضرورية لها، بل على العكس توجد منظومة قيم معيقة لها ومجتمع منقسم قد استحكم الخصام بين مكوناته، ومفتقر إلى الاندماج وتغيب عنده الهوية الوطنية الجامعة، وتحيطه بيئة إقليمية خانقة ورافضة ووائدة لها، بجانب الإخفاق في توافر الاشتراطات العامة المتفق عليها للديمقراطية من سعة تعليم متقدمة إلى دخل فردي جيد إلى القرب من المراكز الديمقراطية إلى الجوار المساعد، وأن يتم ذلك في ظل مجتمع مندمج وأحزاب فاعلة ومؤسسات قوية ومجتمع مدني حيوي، في حين على الجانب الآخر أن ألمانيا واليابان كانتا قبل احتلالهما على قدر عالٍ من التطور الصناعي وسكانهما مندمجون ومتعلمون وأن حكومتيهما استسلمتا ولم تقاوما، بل لم يجدا غضاضة في أن يتعلما من محتلهما ويأخذا بأسباب قوته.

لذا وبسبب حزمة العوامل المجهضة هذه فإن العراق وضع وأصبح عليه الاختيار ما بين الديمقراطية أو الاستقرار، ولم يكن يملك ترف الجمع بينهما كما امتلكت شعوب غير منطقتنا، فالحرب التي جرت طيلة هذه السنين الست على أرضه وكان مسرحا دمويا لها، هي في حقيقتها ومهما رفع من لافتات وعناوين لها فإنها تستبطن الصراع بين قوى الدمقرطة وخصومها، بين المنتفعين بها والمضارين منها، بين المتطلعين إليها والمتخوفين منها، بين الآملين بامتدادها وواضعي الحواجز دونها، بين مسانديها وبين الخائضين للحرب الاستباقية ضدها، وبعد أن حقق كلا الطرفين جزءا من أهدافه وأدركا استحالة الحسم لمصلحة أحدهما واكتفيا بدرء المخاطر والتهديد عنهما، فكان لا بد لهذه الحرب من أن تضع أوزارها وخير ما تنتهي به عندنا من حلول غالبا بتسكين واحتواء الصراعات على طريقة أن لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم، فمن جهة لا يمكن أن يستدير العراق ويتراجع عن ديمقراطيته، حيث لن تكون الاستدارة بعد أن أطلقت كل قواه من قمقمها إلى نظام فردي ثانية قادر على البسط والسيطرة، بل سيكون الذهاب المحتم إلى حرب أهلية يكون الخلاص الأهون منها التشظي إلى دويلات وأجزاء متنازعة، ومن جهة أخرى بات وكأنه قدر له أن لا يستكمل بناءه الديمقراطي المترافق مع رفاه اقتصادي تؤهله له ممكناته لئلا يشكل بذاك عامل جذب وتبنٍ، وبافتقاره كما تقدم للشروط الموضوعية والذاتية اللازمة لذلك، فضلا عن أن ديمقراطيته التي كانت انتقالة غير ممهدة من نظام شمولي قسري كاتم على أنفاس شعبه إلى حرية فهمت بأنها طريق للتحلل من كل قيود بما فيها ضرورات واشتراطات العيش المشترك، يساعد ذلك طبيعة الانقسامات العراقية المنتجة لشخصية قادرة دوما على تبرير قابليتها على التوظيف وللعب دور الأداة، والتي بدت مستعدة للدخول في صفقات التخادم من أجل أن تستقوي بالأجنبي في صراعاتها الداخلية، يوازي ذلك تعلق بوحدة هوامية يقوضها ويعاكسها ميلنا في رفض أن يحكمنا الآخر المغاير.

لذا فيبدو أن أفضل وضع متصور البقاء إلى حين، هو ذاك المتضمن خليطا من نصف ديمقراطية ونصف استقرار، وهذا هو الحال الذي سيكون عليه العراق حتى تتغير الظروف الذاتية والموضوعية.