طيف ماركس.. شبح الشيوعية.. وروح الرأسمالية

TT

ميزة الرأسمالية أنها تستفيد من أخطائها، وتعدل من أوضاعها بعد كل أزمة، فتعود أقوى مما كانت، وذلك كما حدث بعد أزمة 1929 مثلا. أو لنقُل إن الدولة في ظل الأنظمة الرأسمالية هي من يعيد الحسابات، ويعدل الأوضاع بعد كل أزمة يمر فيها النظام، حتى لو عارض الرأسماليون أنفسهم مثل هذه التعديلات في بادئ الأمر، وذلك كما فعل روزفلت في تعامله مع أزمة 1929، بالرغم من معارضة كبار الرأسماليين، الذين أدركوا في النهاية بُعد نظر روزفلت في حمايته للنظام الرأسمالي من نفسه، فالرأسمالية إذا تُركت لقوانينها الداخلية الصرفة، أي دون تنظيم وضبط، فإنها في النهاية تدمر نفسها بنفسها. وكان ماركس (1818 ـ 1881) مصيبا تماما في هذه النقطة، ولكنه لم يكن مصيبا فيما يتلو ذلك. فليس من الضروري مثلا أن تكون الاشتراكية ومن ثم الشيوعية وديكتاتورية البروليتاريا، هي النتيجة الحتمية لانهيار الرأسمالية، كما أنه لم يكن مصيبا في كون انهيار الرأسمالية أمرا محسوما، أو هو حتمية تاريخية، وفق التعبيرات الماركسية، فقد أغفل قدرة الرأسمالية، من خلال الدولة، على تعديل الأوضاع، ومن ثم تعديل المسار.

لم تكن الدولة أو السلطة في الفلسفة السياسية الماركسية إلا جزءا من البناء الفوقي، أو البنية الفوقية لأي نظام اقتصادي، وبالتالي هي مجرد تابع للنظام، وبالتالي ليس لديها القدرة على التأثير عليه، فمهمتها هي حماية النظام من الخارجين عليه، أو المخلين بأنظمته الاقتصادية، ولا شيء غير ذلك. أما أن تكون الدولة فاعلا، فتغير من طبيعة النظام، فذاك شيء لم يرِد على ذهن ماركس، إلا إذا حدث الانقلاب الكبير، وانهارت الرأسمالية بأزمة عامة، وجاءت حكومة اشتراكية كمقدمة لمجتمع شيوعي يلغي الدولة برمتها.

كما أن المنظّر الأول للرأسمالية «آدم سميث» (1723 ت 1790) كان محقا في جوانب معينة، وكان مخطئا في جوانب أخرى. فـ«اليد الخفية» التي تحدث عنها سميث تؤدي في النهاية إلى خير الفرد والمجتمع، كما أن البحث الفردي عن المصلحة الخاصة سوف يؤدي في النهاية إلى مصلحة الجماعة ككل، ولكن ذلك لا يكون دون ضوابط تحدّ من الحرية المطلقة لهذه اليد الخفية، فالحرية المطلقة لهذه اليد هي في النهاية ما يؤدي إلى الأزمات الخانقة والعامة للنظام الرأسمالي، وذلك مثل أي حرية مطلقة دون قيد.

حاولت الريغانية (نسبة إلى رونالد ريغان)، والتاتشرية (نسبة إلى مارغريت تاتشر)، بعث فلسفة سميث ومريديه الاقتصادية إلى الوجود من جديد، ومنهم الاقتصادي الشهير ميلتون فريدمان (1912 ـ 2006)، من حيث تقليل دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع إلى أضيق الحدود، وترك اليد الخفية تعمل بحرية أكبر، فكانت النتيجة هي هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعاني منها العالم اليوم. أزمة اليوم الاقتصادية هي أزمة قوانين وتشريعات وأنظمة، تحدّ من حرية هذه اليد التي أعادها إلى الوجود ريغان وتاتشر، ومنظّرو اليد الخفية الجدد مثل فريدمان، قبل أن تكون أزمة اقتصاد أو ائتمان أو رهن عقاري.

كان عالِم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864 ـ 1920)، يرى أن الحداثة المعاصرة، وانتقال العالم من العصر القديم إلى العصر الحديث، يمكن إرجاعه إلى سببين رئيسيين، هما: «روح» الرأسمالية، و«الأخلاق» البروتستانتية. كان ماكس فيبر مهتما جدا بدراسة علاقة الثقافة بشكل عام، والدين بشكل خاص، بسلوك الفرد والمجتمع، ومن ثم علاقة كل ذلك بالتقدم أو التخلف. من خلال دراساته استنتج فيبر أن الرأسمالية، وهي التي خلقت العالم الحديث، لم تنشأ إلا في تلك البلاد التي تحولت إلى البروتستانتية، مثل بريطانيا وألمانيا وهولندا، وذلك لأن الأخلاق التي تبشر بها البروتستانتية، على خلاف الكاثوليكية أو الأرثوذكسية، تدعو إلى العمل والإنتاج وتكوين الثروة، والنجاح في مثل هذا المسعى هو علامة رضا من الرب. فالكاثوليكية التقليدية مثلا كانت ترى أن الثراء هو امتحان من الرب، وأن الغني الذي لا يتخلى عن ثروته من أجل الرب لن يدخل الجنة. أما البروتستانتية، أو ما بشرت به تعاليم لوثر وكالفن وغيرهما، في تفسير مختلف للأناجيل، فهو أن الثراء دلالة على النجاح، والنجاح في الحياة الدنيا هو علامة رضا من الرب، وعلى ذلك فإن المؤمن الحق هو من يسعى وينجح، وبذلك كانت الأخلاق البروتستانتية هي الحاضن لروح رأسمالية تكمن وراء كل إنتاج أو إبداع. والحقيقة أن فيبر كان مصيبا في جوانب كثير من استنتاجاته.

فلولا الرأسمالية لما كان كثير مما نراه اليوم من مخترعات وإبداعات في مختلف المجالات، حيث تقف الرأسمالية، وإن كان بشكل غير مباشر، وراء كل ذلك. روح الكشف والإبداع وحب المعرفة كان موجودا في كل العصور، ولكنه لم يتجسد واقعا إلا في ظل الرأسمالية. الرأسمالية تبحث عن الجديد والمتطور دوما، لا حبا في ذات الجديد أو المتطور، ولكن حبا في سلع جديدة، أو تقنية جديدة يمكن أن تخدمها في جني أرباح أكثر وأكثر، ولكن حب الرأسمالية لذاتها ومصالحها خدم العلم والمعرفة بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ، ومن هنا ندرك لماذا كل هذا الإنفاق الكبير على مراكز البحوث والجامعات في الدول الرأسمالية. هل كان من الممكن أن يظهر الأخوان رايت أو أديسون أو ماركوني وغيرهم من المخترعين في ظل نظام غير النظام الرأسمالي؟ بالنسبة إلي، لا أرى أن ذلك كان ممكنا. فلو ظهر الأخوان رايت في عصر غير العصر الرأسمالي، وحاولا الطيران، هذا إذا افترضنا أنهما فكرا في ذلك، ونجحا فيه، فما الذي يمكن أن يجري بعد ذلك؟ الجواب هو لا شيء، فستبقى تجربتهما قصرا عليهما، ما دام النظام الاقتصادي السائد غير قادر على تحويل اختراعهما إلى سلعة عامة، وذات الشيء يمكن قوله عن أديسون وماركوني وغيرهما، وأكبر دليل على ذلك أنه خلال السنوات العشرة الآلاف من تاريخ الإنسان المكتوب، لم تحدث تغيرات ذات أثر كما حدث خلال مئة عام من عمر الرأسمالية. ولماذا نذهب بعيدا وفي تاريخنا العربي الإسلامي ما يثبت ذلك؟ لقد كان طب ابن سينا (980 ـ 1037) متقدما في عصره، وكانت بصريات ابن الهيثم (965 ـ 1039) متقدمة في عصرها، ولهما اكتشافات عززها العلم المعاصر، ولكن ماذا حدث لعلمهما بعد ذلك؟ لا شيء، إذ لم يكن النظام الاقتصادي السائد قادرا على الاستفادة من مكتشفاتهما أو علمهما، فبقيت علومهما منجزات ذاتية دون أن تتحول إلى «سلعة عامة». نحن نفتخر بهما اليوم كعالِمين، في عصر العلم والتقنية، ولكننا نكفرهما في مواضع أخرى بعيدا عن العلم، ولكنهما كانا من المجهولين في عصرهما، لولا بعض إسهامات في الفلسفة وعلوم الكلام.

كان ماركس، وهو نقيض فيبر على أية حال من حيث قول أحدهما (ماركس) بأن الثقافة تابعة للمادة، فيما يقول الآخر (فيبر) أن المادة تابعة للثقافة، وكلاهما ألماني الثقافة، يرى أن الرأسمالية تفتح الباب لمجتمع الوفرة، وهي ذات الوفرة التي سترثها الشيوعية حين تصل الرأسمالية إلى أزمتها العامة والنهائية، وحينئذ سوف يتمتع الجميع بهذه الوفرة، ولن تكون حكرا على قلة مترفة، فيما الكل يشقى. كان ماركس حقيقة رومانسيا حين بشر بذلك في كتابه «الآيديولوجيا الألمانية»، إذ دون الرأسمالية و«روحها» لن يبقى للإبداع مكان، إذ دون الحافز الذي تقدمه الرأسمالية للتجديد والابتكار لن يكون للإبداع مكان. نعم، حب المعرفة والإبداع والاكتشاف موجود في الروح الإنسانية، ولكن دون حافز يدفع هذا الحب إلى التجسد، فإن كل شيء يبقى حبيس النفس. قد لا تكون الرأسمالية أفضل نظام قد يتخيله العقل البشري، ولكنها أفضل نظام ممكن حتى هذه اللحظة، بمثل ما هي الديمقراطية.

تعيش الرأسمالية اليوم أزمة خانقة، لا شك في ذلك. وشبح ماركس يحوم في الأفق، لا شك في ذلك. وآدم سميث يتقلب في قبره، ربما كان ذلك. ولكن في النهاية لا أظن أن هذه هي النهاية، فالرأسمالية قادرة على النهوض من جديد من بين الأنقاض، كما العنقاء في أساطير الأولين. وإذا كان بمقدور الرئيس فرانكلين روزفلت والاقتصادي جون مينارد كينز أن ينقذا الرأسمالية من نفسها عام 1933، فإن العالم على وشك أن يرى إنقاذا جديدا للرأسمالية، ولا أدري من هو رئيسها أو منظّرها الجديد، بعد أن ترنحت على يد الريغانية والتاتشرية واليد الخفية الجديدة لفريدمان ومريديه.

الرأسمالية نظام جيد عمليا، بعيدا عن الأحلام الطوباوية، ولكن بعد أن تقيد تلك اليد الخفية، وتصبح الاشتراكية جزءا من الرأسمالية، وهو في ظني ما سيحدث، وعندها سوف يتعانق ماركس وسميث، ويبتسم فيبر من بعيد محييا هذه «الروح» الخلاقة لحضارة الإنسان على هذا الكوكب.