جميل جمال..

TT

منذ أيام وصلتني رسالة ذكرتني بفضل النخلة وجمالها وفوائد ثمرها. تقول الرسالة إن مَنْ لا يأكل سبع تمرات في اليوم ظالم لنفسه، لأن التمر يخفض الكلسترول، ويقي من تصلب الشرايين، والأنيميا، والحساسية، والإمساك، ويمنع الإصابة بسرطان الأمعاء الغليظة، ويقلل تشكيل الحصى في المرارة، وله آثار حميدة علي الحامل والوالدة والمرضع.

التمرة تحتوي علي سبعة أنواع من الفيتامينات، وأحد عشر نوعا من الأملاح المعدنية. وهي غنية بالمغنيسيوم والكالسيوم.

لو لم أكن من محبي النخيل والبلح والتمور، لما استوقفتني الرسالة. ولذلك، احتفظت بها، وفكرت في مضمونها، وتداعت أفكاري عن فوائدها وموقعها في وجداني وفي ذاكرتي. فهي نخيل مباركة ذكرت في القرآن الكريم، وفي الحديث النبوي مرات ومرات.

وليس أدل على أنها خلقت لتدهش أنها تنمو وتعلو في بيئة صحراوية قليلة الماء، وتخضر وترتفع إلى ارتفاع 30 مترا. وقد دلت الأبحاث على أن النخيل يخرج ثمارا يزيد عددها على ألف نوع.

ذكرتني الرسالة بشقيقي الكبير الذي توفي منذ أكثر من عشرين عاما. كان أستاذا في الكيمياء الحيوية. حصل على الدكتوراه من الولايات المتحدة الأمريكية، وتدرج في العلم إلى أعلى الدرجات، ولكنه ـ وبعد ربع قرن من الغربة ـ اشتاق إلى أصوله الريفية, فاستقال من عمله الجامعي؛ وعاد إلى مصر، واشتري أرضا زراعية، لكي يبني عليها بيتا تحفه النخيل من كل جانب. أذكر وجهه الباسم وهو يزف إليَّ البشرى بأنه زرع باسمي أربع نخلات في باحة البيت. ولعل كلينا ورث حب النخيل عن والد طيب، لم يخِف ولعه بثمار النخيل أبدا.

كان يعود من العمل كل يوم من أيام الخريف محملا بأكياس البلح بأنواعه.. فهذا بلح زغلول أحمر يسر الناظرين، وهذا بلح سماني أصفر، تتفنن نساء الدار في تحويله إلى مربى غنية باللوز، تخزَّن في أوانٍ زجاجية من عام إلى عام. وأذكر البلح الرملي الأسمر، وبلح الأمهات ذا الحبة الصغيرة الداكنة الحلوة. كان أبي يعهد إليَّ بغسل البلح، لعلمه بأنني مثله مغرمة بأكله. وأعترفُ هنا بسر احتفظت لنفسي به طويلا. فقد كنت وأنا في أول مراحل الصبا، لا أجد غضاضة في اختيار أفضل ثمار البلح لنفسي. احتفظ بها في مكان أمين، إلى أن تخلو الساحة إلا مِنِّي؛ فأُخرِج البلح من مكانه الذي خبأته فيه، وآكل منه كفايتي. ولم تواتني الشجاعة لكي أطلب السماح من أسرتي على تلك الأنانية، إلا مؤخرا.

من آيات الدهشة أن كل جزء من النخلة يفيد البشر، ابتداء من جذعها، وما يجود به من ألياف تصنع منها الحبال والأنسجة، إلى قلبها العامر بمادة فيها غذاء وشفاء، إلى سعفها الذي تصنع منه السلال والأسقف وثمارها التي تؤكل، ثم يستغل النوى في صنع مواد طبية. وفي الأزمنة القديمة كانت مراكب البحر تصنع من جذع النخيل، أو تؤخذ منه مقاطع، وتجوف وتستخدم لطحن الحبوب.

لو طال بي العمر أتمنى أن أجمع كل ما يمكن جمعه من تراث عن النخيل في الحضارة والتاريخ وفي الثقافة الإسلامية وفي الطب النبوي والفنون التشكيلية والموسيقية والحكايا والأساطير. والحق أقول.. لو لم أكن إنسانا، أي مخلوقا ميزه الله عن سائر الخلق، لتمنيت أن أكون نخلة طويلة باسقة، وارفة الظل، تسر الناظر إليها، وتحمي المحتمي بظلها.