الكاتب؟ الكتاب؟ أم الناشر؟

TT

في الثمانينات نشرت رواية على حلقات في مجلة «المستقبل» بعنوان «بائع الفستق». وتلقيت، للمرة الاولى، رسائل من بلدان لم أتلقَ منها رسائل من قبل، بينها تونس وعُمان. واقترح ناشر عربي اصدارها في كتاب فرحبت وشكرت. وعندما تلقيت النسخة الاولى فجعت. كنت كمثل أب من السويد ينتظر أن تلد زوجته (السويدية أيضاً) فإذا بالقابلة تحمل له مولوداً صينياً. أو العكس.

كان الكتاب مطبوعاً على ورق ملطخ، وعليه بقايا بقع من اسياخ الشاورما التركية، التي تكثر في اسطنبول وأكثر منها في مدينة كولونيا، الالمانية. رفضت الاعتراف بالكتاب. وكلما سئلت أو نشرت لائحة بالكتب الصادرة لي، تنكرت له ولم آتِ على ذكره كأنه ما كان وما كتب. وشاركني في هذا الموقف جميع القراء دون استثناء. وبعد حوالى عشر سنوات اتصل بي موظف من مستودعات دار النشر، فرع لف الشاورما، وسألني ماذا يفعل بالنسخ التي لم يُبع شيء منها. وقلت له أرسلها الى كولونيا. أو أزمير. أو اضنه.

منذ عام بدأت «دار العبيكان» بإعادة نشر جميع كتبي، ووقعت عقداً لنشر الكتب المقبلة. وكان آخرها «بائع الفستق». وقد أرسلت الي الدار كشفاً بالنسخ التي طبعت والتي بيعت والمتبقي للبيع. وهذه أول مرة في عمري أكتشف أن للكاتب دخلاً من كتبه. وفي الماضي كنت أتلقى عدداً من النسخ التي أهديها لأصدقائي. وتجنبت في بيروت توقيع أي كتاب لأنني أعرف أن اللبنانيين مثقلون بالدعوات وأن معظمهم يذهب خجلاً لا رغبة. وقد سمعت كثيرين يتذمرون من «الموازنة» التي يخصصونها كل عام لكتب التواقيع، ولم أرد الانضمام الى المتذمر منهم.

كنت أعتقد دائماً ان هناك قارئاً عربياً لكن ليس هناك مؤلفٌ ولا ناشرٌ. وكان يتأكد لي ذلك في معارض الكتاب التي تبدو مثل أكشاك باعة الجملة وسوق «الحراج». لكن النشر قطع طريقاً طويلاً في درب الاحترام. احترام النفس واحترام القارئ. وكنت أخرج من معارض الكتاب ببعض الغبار فأصبحت أرى نفسي أذهب الى المعرض ذاته عدة مرات. ولم يعد للكتاب مظهر المتسولين أو رائحة دهن الشاورما في بلاد الاناضول، بل أصبح في مرتبة الكتاب الغربي عند ناشرين كثر. ولا أريد أن أسمي لكي لا نظلم بغير حق. لكن ثمة ظاهرتين جديرتين بالتوقف: الاولى، هي الاثراء الذهبي الذي أضافته مؤسسة الشيخ محمد بن راشد من ترجمات علمية وثقافية. والثانية هي مستوى الترجمات الادبية الصادرة عن بعض دور دمشق. وما زلنا في بداية الطريق. لكن المصابيح تتكاثر.