اللعب بأمن مصر

TT

لم يتجرأ أحد من قبل على مصر، كما تجرأ حسن نصر الله بتدخله المباشر في شؤون مصر، في خطابه مساء الجمعة الماضي، والذي اعترف فيه بأن عناصر «حزب الله» قد تورطوا في التخطيط لعمليات في مصر، منهم اللبناني سامي شهاب المحتجز لدى السلطات المصرية فيما يعرف اليوم بقضية «حزب الله مصر». الهدف الأساسي لـ«حزب الله» ومعه إيران، هو زعزعة الاستقرار في مصر. ولنصر الله الحق في أن يزعزع ما يشاء من الأنظمة، فهو رجل ينفذ المخطط الإيراني الرامي إلى إضعاف الدولتين المحوريتين في العالم العربي اللتين تمثلان حجر عثرة أمام الهيمنة الإيرانية على الخليج خصوصا، وعلى الفضاء العربي عموما. المفارقة في الأمر، أن الأنظمة العربية تجد خجلا وحرجا في مواجهة مخطط نصر الله. ففي مصر مثلا لم أقرأ أو أسمع ردا واحدا صريحا على ما قاله الرجل، كل المسؤولين الذين تحدثوا للصحافة أصروا على عدم ذكر أسمائهم. المسؤولون المصريون لا يذكرون أسماءهم، وحسن نصر الله يخرج عليهم في حديث متلفز لا مواربة فيه يتهم مصر بالتلفيق والكذب في القضية. لماذا لا يخرج مسؤول مصري يرد بوضوح على ما قاله نصر الله، ولماذا هذا الخجل؟ ورغم ما قاله المدعي العام المصري من أن وسيلة التمويل والتجنيد كانت من خلال مكاتب قناة فضائية، لم يطالب أحد في مصر بإغلاق مكاتب حسن نصر الله ومكاتب قناته التلفزيونية (المنار) في القاهرة.

السر يكمن في قوة اللوبي الإيراني في القاهرة الذي رسم للحكومة خطا أحمر حده ألا ينتقد «حزب الله» ولا زعيمه، لأن أي تعرض لهذا الحزب أو لهذا الزعيم سوف يصب في مصلحة إسرائيل، وهذا ما قاله نصر الله في خطابه المتلفز، المستفيد من القبض على خلايا «حزب الله» في مصر هي إسرائيل. الحقيقة هي أن المستفيدين من زعزعة الاستقرار في مصر هما إيران وإسرائيل معا، وبهذا الترتيب. فلإسرائيل حدود جغرافية مع مصر، ورغم كرهها للدور المصري في المنطقة، إلا أنها ستفكر كثيرا بالأضرار التي سوف تعود علي أمنها واستقرارها إن عمت الفوضى في مصر، أما إيران المنفصلة عن مصر جغرافيا، فبإضعاف مصر قوة لها، مصر هي منافسها في الزعامة الإقليمية، بلا شك الحكومة المصرية تدرك ذلك، ولكن اللوبي الإيراني في مصر استطاع التغلغل في المجتمع، مما جعل الحكومة ذاتها تخاف من انتقاد سياسات حسن نصر الله. العيب ليس في خطط زعيم «حزب الله» اللبناني، وإنما العيب في غياب ردة الفعل المصرية الرسمية المناسبة.

دعونا من مقولة سمعناها مرارا، وهو أن لحسن نصر الله معجبين أبرياء في مصر بدافع الحب والتوق إلى رومانسية زعيم عربي له كاريزما جمال عبد الناصر، فالأكيد هو أن لنصر الله معجبين غير أبرياء في مصر، «معجبي فلوس» يقبضون ثمن هذا الإعجاب، والكثير منهم مقرب من الحكومة. اقترب اللوبي الإيراني في مصر من الحكومة ومجلس الشعب لدرجة أن الحكومة وأجهزتها لا تراه، عندما يقترب منك الشيء ويلتصق بك تصعب لديك رؤيته، وهذا ما حدث في مصر. الإعلام المصري عبأ الشارع منذ أعوام، وجيش الجماهير لصالح نصر الله وإيران، فكتاب الحرس الثوري موجودون اليوم في العديد من صحف مصر، وهناك صحف ممولة بالكامل من الحرس الثوري، وبعض رؤساء تحرير صحف الحرس الثوري يسافرون على أهم طائرة للحكومة المصرية، إذن «إحنا بندافع عن مين ضد مين؟». والطريف أن بعض رؤساء الصحف القومية ممن مجدوا حسن نصر الله في السابق يطالبون الشارع المصري اليوم بأن يستنكر على زعيم «حزب الله» ما قاله بحق مصر.. «هو إيه الحكاية»؟

عندما كتبت مقالا عن «اللوبي الإيراني» في صحيفة «الشرق الأوسط» وتبعته بعدة مقالات عن اللوبي الإيراني مرة أخرى وفي مصر، قامت الدنيا ولم تقعد. والآن اكتشفوا أن إيران «مش برا»، وأن إيران «اللي جوه» أكبر من إيران «اللي بره»، وأن هناك شبكة كاملة من خلاياها في القاهرة يمولها «المال الطاهر» والطاهر بمعنى القادم من طهران كما ذكرت في مقال سابق، شاليهات وعزب، وعذاب وعيون ما تنام، على رأي شادية. إذن المشكلة ليست في تطاول حسن نصر الله على سيادة مصر واستقرارها، المشكلة في مصر نفسها. فإن لم تواجه مصر هذا التغلغل الإيراني الخطير في المجتمع، فإن الثمن سيكون فادحا. إن خلية «حزب الله» التي تم القبض عليها في مصر ما هي إلا الجزء الظاهر من هذا التنظيم الكبير الممول جيدا. ما يحدث في مصر اليوم من تغلغل لـ«حزب الله» هو أشبه بما قامت به الجماعات الإسلامية في السبعينات. قلنا كثيرا إنها جماعات ليست سياسية حتى جاء مقتل أنور السادات، وقلنا الجماعة أصبحت عاقلة ثم دخلنا في دوامة العنف لمدة خمس سنوات من 1990 إلى1995. سنهون مما حدث من إلقاء القبض على الخلية «الحزب اللاوية»، حتى تقع الفأس في الرأس بعد عام أو عامين.

لن ينفع الحكومة المصرية إنكار موارب أو استنكار خجول لما حدث، إذ عليها أن تدرك أنه ليس من المعقول أن تطالب اليوم الصحف بإدانة نصر الله، وهي الصحف ذاتها التي كانت تلهج بحمده في الأمس القريب. بل وما زالت مذيعة التلفزيون الحكومي، في لقائها مع وزير الخارجية أحمد أبو الغيط، تشير إلى نصر الله بألقابه وزخارفه. كيف نطالب الناس أن تهتف للشيء ونقيضه في الوقت نفسه؟ كيف لمصر أن تقف وقفة حاسمة أمام تطاول نصر الله عليها وعلى أمنها، في الوقت الذي تتمتع فيه مكاتب قناة «المنار» والصحف المرتبطة بطهران والممولة منها، تتمتع كلها بمطلق الحرية؟ كيف لمصر أن تواجه طهران، ولإيران مناصرون أشداء أعضاء في مجلسي الشعب والشورى المصريين؟ كيف يحدث كل هذا؟ كيف تحظى مجموعات إيران في مصر بكل هذه الميزات، ونطالب الغلابة أن يتظاهروا ضد نصر الله؟ إيقاف حسن نصر الله عن العبث في الداخل المصري يتطلب وعيا عاليا مصحوبا بقرارات حاسمة، لا رقص على الحبال، لا مواربة ولا تلوين.

إن اللعب بأمن مصر هو بداية لمشروع لعب بأمن دول أخرى في المنطقة. تدخل «حزب الله» في الشارع المصري ودخول خلاياه إلى أرض مصر، وباعتراف أمينه العام، هي بداية للعب بالنار في أمن أكبر دولة عربية. إذا مرت هذه اللعبة الخطيرة من دون أن يتخذ موقف حاسم من «حزب الله»، ولم تفكك مصر كل شبكات إيران في داخلها، بما فيها أعضاء اللوبي الإيراني في الصحافة المصرية وفي مجلس الشعب، فقل على أمن مصر السلام من الآن فصاعدا. ما فعله «حزب الله» في مصر هو مجرد اختبار، إن مر فتوقعوا المزيد. لقد حذرت منذ فترة من تغلغل خلايا «حزب الله» في مصر، وووجهت يومها بكثير من النقد اللاذع، فماذا يقول اللاذعون اليوم بعدما اعترف حسن نصر الله بفمه، بأن له خلايا تعمل في مصر؟