باراك أوباما.. وتحديات العصر

TT

لا بد لكل منصف في هذا الكون أن يتعاطف مع الإرث الثقيل المحمل بعار جرائم الحروب الفاشلة وبالانهيار المالي الذي تركه الرئيس السابق بوش الابن والمحافظون الجدد لرئيس شاب أخذ على عاتقه مسؤولية البدء بمسار التغيير في الولايات المتحدة والعالم. وما أن استلم مقاليد منصبه، إلا أن بدأ الجميع يشعرون ببداية تغيير في الفكرة والموقف والأسلوب واللهجة والنبرة. لقد وجد باراك أوباما اقتصادا يعاني من أزمة مالية حادة، واستنزاف لمقدرات الولايات المتحدة في حروب عبثية كارثية ألحقت دمارا شاملا في العراق وأفغانستان لتمتد مؤخرا إلى باكستان، وارتدت العواقب الوخيمة لهذه الحروب لتصل حياة المواطن الأميركي نفسه، سواء بالنسبة لخسارة الأرواح البشرية أو المنزل أو فرصة العمل. وكان المستفيد الوحيد هم صناع وتجار السلاح والقائمون على ما سمي بإعادة الإعمار، حيث تسربت مئات المليارات من الدولارات للفاسدين والمفسدين من مختلف البلدان، بما في ذلك كبار مسؤولي إدارة بوش، كما ورث أوباما صورة الولايات المتحدة القاتمة المرتبطة بجرائم الاحتلال والقتل والعنف وانتهاك القوانين الدولية والتعذيب والعنصرية ضد المسلمين. وقد ورث باختصار «نحن ضدهم، وعالمهم ضد عالمنا، ونحن المتحضرون وهم الإرهابيون». وكرئيس عُرف بأنه كاتب ومثقف وذكي، أدرك أن شعار بوش هذا سيزيد من أزمة الولايات المتحدة وسيرتد عليها وليس فقط على الذين تقف ضدهم، فبدأ باجتثاث هذا الشعار من اللغة الرسمية حين قال في كلمته في البرلمان التركي: «الولايات المتحدة ليست، ولن تكون أبدا، في حرب مع الإسلام». وأضاف: «إن علاقة الولايات المتحدة مع العالم الإسلامي لا يمكن أن تستند فقط على محاربة الإرهاب. نحن نبحث عن انخراط أشمل على أساس المصلحة المتبادلة والاحترام المتبادل».

لو قُدّر أن يكون هذا هو رئيس الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من أيلول لكانت «الحرب على الإرهاب»، التي غيّرت اسمها إدارة أوباما إلى «عمليات خارجية»، سلكت طريقا آخر أقل كلفة لأميركا وللعالم، ولكان الإرهابيون اليوم أقل صولة وجولة في مناطق مختلفة من العالم، ولكان العراق تجنب أكبر كارثة في تاريخه أودت بحياة مليون ونصف مليون عراقي تتحمل الولايات المتحدة عار إبادتهم.

ولكن، وإذا كان البكاء على الأطلال لا يجدي نفعا، لنتبصر اليوم بالتحديات الناجمة عن حقبة بوش، السيئة الصيت، ولنرَ ما هي مسؤولية الجميع في دعم ملامح طريق بدأ رئيس شاب في دولة ما زالت الأهم في العالم بتوصيفه والدعوة إلى السير عليه.

في الوقت الذي تبدو ملامح هذا الطريق أكثر وضوحا في ذهن أوباما حين يتعلق الأمر بالوضع الاقتصادي الداخلي وبالوضع في أفغانستان والعراق وباكستان، ما زالت الأمور أشد التباسا حين نتطرق إلى موضوع الصراع العربي ـ الإسرائيلي وموضوع إيران، ذلك لأن المشكلة في هذين الموضوعين هي وجود طرف ثالث يعتبر تاريخيا حليفا للولايات المتحدة، ويتميز هذا الحليف بلوبي مؤثر جدا في السياسات الأميركية بفعل تغلغل عملائه في أجهزة الإدارة والكونغرس والإعلام والمخابرات والجيش. سياسات اللوبي الإسرائيلي تناقض اليوم تناقضا شديدا توجهات الرئيس أوباما وانفتاحه على الآخر واحترامه له وإحساسه العميق بضرورة الحوار وإرساء أسس العدالة.

التأثير القوي للوبي الإسرائيلي في وسائل الإعلام الأميركية وتغلغله في كل مفاصله يجعله لا يتورع من ضخ أكاذيب لا أساس لها من الصحة كي يقود الرأي العام والكونغرس والإدارة في الولايات المتحدة، والعالم إن أمكن ذلك، إلى حيث يريد. وتتضاعف هذه الأزمة في عصر الإعلام السريع، والإعلام الذي تحكم قوات الجيش الإسرائيلية السيطرة عليه، كما حدث خلال الحرب الإسرائيلية على غزة، بحيث تجد الواقع المؤلم للناس التي دمرت بيوتهم وأرضهم وانتهكت حرماتهم يقف في مفارقة صارخة مع الدعاية الإسرائيلية التي تصور الفلسطينيين والعرب جميعا كإرهابيين، وتدعي أن كل الجرائم التي ارتكبتها بحقهم هي من باب الدفاع عن النفس.

ولأن الصحافة التي تحقق وتدقق في الأخبار تنحسر رويدا رويدا وتحل محلها آلة معلومات خاطفة وسريعة تنقل مما هو متوفر، فإن الوصول إلى قاع الحقيقة يتطلب الوقت والجهد والالتزام من أطراف لا تمتلك التمويل والإمكانية لفعل كل هذا.

في هذا العصر أصبح الإطلاع على الواقع بأم العين كما كان يفعل الأجداد أمرا ضروريا لتقويض مصادر التسويف والدعاية. ففي النقب قتلت القوات الإسرائيلية الطالبة البدوية بسمة النادري (16) عاما، لأنها كتبت قصيدة لأطفال غزة، بالضبط كما قتلت الجرافة الإسرائيلية، قبل سنوات، الطالبة الأميركية، راشيل كوري، لأنها حاولت الدفاع عن بيوت الفلسطينيين المهددة دوما بالهدم من قبل السلطات الإسرائيلية من أجل بناء مستوطنات جديدة للمتطرفين اليهود القادمين من بلدانهم البعيدة، كما قتلت القوات الإسرائيلية المخرج البريطاني جيمس ميللر لأنه يصور فيلما عن أطفال غزة، والبريطاني توم هورندال لأنه يحاول حماية أطفال غزة الذين يلاقي الآلاف منهم مصير الطفل محمد الدرة الذي اغتاله الجنود الإسرائيليون بست وثلاثين طلقة أمام عدسات التلفزيون. والمجال لا يتسع هنا لسرد الفروقات بين الجرائم التي ترتكبها إسرائيل من بناء جدار الفصل العنصري إلى هدم المنازل وقتل المدنيين بالقنابل الفوسفورية، ولكن مثالا عن أسلوب التهويل والكذب الذي يستخدمه قادة إسرائيل يورده الكاتب الأميركي روجر كوهين في جريدة «الهيرالد تريبون» 9 نيسان (أبريل) 2009 بعنوان: «إسرائيل تصرخ: الذئب» حيث قال إن شمعون بيريز توقع في تصريحاته عام 1992 أن إيران سوف تمتلك القنبلة النووية عام 1999. كما أن إيهود باراك أكد عام 1996 أن إيران ستنتج أسلحة نووية عام 2004 واليوم يأتي نتنياهو ليقول: «لا نريد لمتطرفين ومتعصبين أن يمتلكوا قنبلة نووية، لأنهم حين يمتلكون عنان أسلحة الموت الشامل، فإن العالم برمته يجب أن يقلق».

والسؤال البدهي هنا الوحيد هو: من الذي استخدم القنبلة الذرية في تاريخ البشرية؟ هل هم العرب والمسلمون؟ ومن الذي يستخدم القنابل العنقودية والفوسفورية، وقبلهما قنابل النابالم ضد المدنيين ليدمر الأراضي والمياه والبنى التحتية والمشافي والمدارس عن عمد وسبق إصرار؟ ومن الذي يقتل الأطفال والنساء وينشر تحت صورة امرأة فلسطينية حامل «طلقة واحدة تقتل اثنين»؟

إن التحدي الذي يواجه الرئيس أوباما في منطقتنا هو أن يستمع، ولكن ليس فقط وحصريا للمصادر الإسرائيلية التي اعتادت أن تصور جرائمها على أنها ردات فعل على الفلسطينيين، وقتلها للفلسطينيين بالصواريخ والقذائف على أنه نتيجة اشتباكات، والتي تصور اليوم مشكلة النووي الإيراني بالمقلقة مع أنها أول من جلب الأسلحة النووية إلى الشرق الأوسط. فإذا كانت إسرائيل هي التي تمتلك السلاح النووي، وهي تصد المحاولات العربية للسلام، فعلى العالم أن يقلق بفعل وقائع تاريخها الدموي والاستعماري والاغتيالي والتدميري.

إن دعوة أوباما لعالم حر من الأسلحة النووية هي دعوة رائعة، وبداية مشجعة، وما عليه سوى أن يعمل على نزع السلاح النووي من الذي يملكه ويهدد باستخدامه.

لا شك أننا على مفترق طرق قد يؤدي إلى المسار السليم المعتمد على احترام الإنسان، والذي يستهدف صون كرامته وحريته، ولكن قوى الاحتلال والشر لا تزال متربصة بهذا المسار وسالكيه. لا شك أننا جميعا على عتبة مرحلة هامة من تاريخ البشرية نأمل أن تنتصر بها قوى الخير والإنسانية على قوى الشر التي تلبس قفازات الديمقراطية والقانون، ولكنها تبيد الإنسان وحياته وكرامته في أكثر الأساليب دناءة. هل تذيب إطلالة أوباما جبال الزيف المستعصي، إنه لتحدّ تاريخي، ليس لأوباما فقط، ولكن للعالم برمته، فهل ندرك كنه وجوهر وأبعاد هذا التحدي ونستعد له ونعد العدة من أجل مستقبل واعد للبشرية جمعاء؟

www.bouthainashaaban.com