من لبنان إلى محيطه.. لعبة كبيرة ولاعبون صغار

TT

«السياسي شخص يريد منك بذل حياتك من أجل بلده»

(الممثلة تكساس غوينان)

أعتقد أنه لا يوجد عربي يحترم نفسه يمكن أن يكون محايدا في الصراع العربي الإسرائيلي. وبكل تأكيد لا مجال للحياد في موضوع العدوان الإسرائيلي المستمر على الفلسطينيين، شعبا ومصيرا وقضية.

لكنني أزعم أنه ضمن الإطار العام لهذا الصراع الحضاري المستمر منذ أكثر من 60 سنة، أي قبل ولادة دولة إسرائيل عام 1948، كانت الخلافات العربية ـ العربية ولا تزال حيال قضية فلسطين، وسبل التصدي للعدوان الإسرائيلي، تنطلق من خلفيتين أساسيتين: الاجتهادات النظرية الخاصة بكل حكم عربي حيال أنجع السبل المتاحة، والأولويات التي تتأثر في كثير من الأحيان بالتحديات الآنية الداخلية والحدودية أو الإقليمية التي تواجه أي حكم.

طبعا، أخفق العرب منذ 1948 في التوصل إلى تشخيص موحد للنكبة، فتعددت الاجتهادات المتأثرة بخلفيات عديدة مثل: ظروف «الحرب الباردة»، و«العسكرة» الراديكالية، التي ورثت أنظمة النخب التقليدية، لكي تتحول هي نفسها إلى أنظمة توريثية قامعة للراديكالية الثورية، والولاءات الطائفية والعشائرية، التي عطلت ولا تزال تعطل المسيرة نحو «الديمقراطية الغربية» كما كان يأمل بها الحالمون والمثقفون المثاليون.

من ناحية أخرى، أدى اختلاف التحديات الداخلية والحدودية (ضمن الإطار الإقليمي) إلى اختلاف على الأولويات عند كل نخبة حاكمة، في كل كيان عربي من المحيط إلى الخليج. فبرغم نوازع الأخوة العربية والإسلامية بات من السذاجة ـ مثلا ـ توقع أن تغلب مسألة دارفور مسألة تحرير الجولان عند المواطن السوري، أو أن يشكل مصير الصحراء الغربية هاجسا عند أبناء الخليج، في مستوى الهواجس التي يثيرها بعض الكلام الإيراني الرسمي عن «إيرانية» البحرين و«فارسية» الخليج.

هنا، وبرغم «مركزية» القضية الفلسطينية، واستمرارها معيارا لـ«شرعية النظام العربي» وصدقيته، ولدت حقا قضايا قد تكون جانبية، لكنها تعني الكثير للشعوب والأنظمة التي تمسها مباشرة. وهذا ما أدركته بعض القيادات الفلسطينية منذ بعض الوقت، فغدت أكثر «براغماتية» إزاء ما تتوقعه، سواء من «النظام العربي» أو الشعوب العربية. وما كان لـ«مسار أوسلو» أن يبصر النور لولا تعلم ياسر عرفات ـ رحمه الله ـ من درسي الأردن 1970 ولبنان 1975ـ1983 المأساويين.

في المقابل، ترك انهيار معادلات «الحرب الباردة» بعد انهيار الكتلة السوفياتية عام 1989 فراغا إقليميا، كانت إيران القوة الجاهزة لملئه. ثم جاء الغزو العراقي للكويت عام 1990 ليرفع الضغط الغربي عن طهران، ويطلق يد حليفتها دمشق في لبنان، حيث كانت طهران قد باشرت تأسيس القاعدة السياسية والتنظيمية والخدماتية والعسكرية لـ«حزب الله» منذ مطلع الثمانينات. وكان «حزب الله» اللبناني، مع «حزب الله» البحريني، و«حزب الله» الكويتي، من أوائل الفروع التي أسستها القيادة الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط، التي يصل عددها اليوم إلى 17 حزبا.

طهران استغلت بكفاءة ودهاء الارتباك الذي أحاط بالنظام العربي الرسمي بعد تحرير الكويت، بقوات «غربية ـ عربية» مشتركة تشكل القوات الأميركية عمودها الفقري. ومن ثم بدأت المرحلة التالية في سعيها لإسقاط هذا النظام، بحجة عجزه وضعفه، بينما تقود هي «الجهاد» من أجل وحدة المسلمين وتحرير فلسطين.

وتوالت الاختراقات، من فلسطين، إلى اليمن، ومن السودان إلى المغرب.

بالأمس، أطل السيد حسن نصر الله، على الملأ ليفند التهم التي وجهتها السلطات المصرية لـ«حزب الله»، بما فيها التآمر على النظام. وكان الكثير من كلام السيد نصر الله دقيقا وصحيحا، كالعادة. لكن بما أنه لا وجود للحقيقة الكاملة إلا عند الله عز وجل، لم يعط الأمين العام، كالعادة أيضا، الصورة كاملة.

لقد قال: إن «الحزب» لبناني، وأفراده لبنانيون، وقيادته لبنانية، وليس له فروع خارجية، وهذا صحيح. لكنه لم يقل شيئا عن مرجعيته العقائدية، ولم يشر إلى «الولي الفقيه»، الذي تتجاوز مرجعيته كل الحدود الجغرافية والسياسية. ثم إن السيد نصر الله، نفسه لم ينف اعتزازه بأنه من أتباع «الولي الفقيه»، الذي عاد «الحزب» ـ الذي هو أحد فروع منظومة أحزاب ـ إلى «مرجعيته»، و«إذنه» للبت في قرار مشاركته في الحياة السياسية اللبنانية، ضمن المؤسسات البرلمانية والحكومية القائمة.

ونفى السيد نصر الله، التآمر على النظام المصري، مع أنه طالب علنا قبل بضعة أشهر الضباط والجنود بالعصيان، وبالأمس قال صراحة: إن ذلك النظام يستحق الإدانة لمشاركته في الحصار على غزة.

وقال السيد نصر الله: إن مهمة «الحزب» هي حماية لبنان من الخطر الصهيوني، الذي يهدد المنطقة، في حين أن اكتشاف إسرائيل دورا ناشطا لـ«الحزب» في تهريب السلاح إلى قطاع غزة، لا يمكن إلا أن يزيد احتمالات تعرض لبنان لعدوان انتقامي.

في مطلق الأحوال، وبغض النظر عن إيجابيات نية «حزب الله» إلحاق أكبر قدر من الأذى بإسرائيل، يحق للبنانيين مراجعة أجزاء كلمة السيد نصر الله، الخاصة بالوضع اللبناني الداخلي، حيث يدعم «حزب الله» بلا هوادة جماعات تلحق أكبر قدر من الأذى بلبنان واللبنانيين.

فتحمس «الحزب» الشديد لدعم النائب ميشال عون، وتياره في كل المناطق اللبنانية، بالرغم من معرفته العميقة بشخص عون، وغريزته السياسية والطائفية، ومواقفه القديمة من «المقاومة» مسألة تدين مثاليات «الحزب» وشعاراته «الطوباوية» الأنصع من البياض.

وإذا ما عطفنا على موقف «حزب الله» من تحالفات الانتخابات اللبنانية المقبلة، موقف حزب طائفي آخر «دولي» الهوية والارتباطات، هو حزب الطاشناق الأرمني، تتكشف لنا صورة أكثر وضوحا للدور النشط لمحور طهران ـ دمشق في لبنان.

فالطاشناق، مثل «حزب الله»، يتمتع بقاعدة ملتزمة تصب أصواتها صبا في الاتجاه التي تحدده لها القيادة. وهو مثل «حزب الله» يلعب السياسة من منظور دولي ـ إقليمي. وحتى إذا كان لنا أن نصدق النفي الرسمي للطاشناق لوجود تدخل دولي، إيراني الطابع، أدى إلى نسف أي تفاهم انتخابي مع قوى «14 آذار» بعد بدء حوار جدي على هذا الصعيد، فإن إيران تشكل لليمين القومي الأرمني ـ الذي يمثله الطاشناق ـ السند الإقليمي الأساسي في وجه عدوه التاريخي تركيا السنية الحنفية.

وعليه، من المخاطر الفظيعة للعبة الطائفية الكبرى التي يجر عون و«تياره» مسيحيي لبنان إليها، أنها تبدو اليوم أكبر من لبنان، وأكبر حتى من أزمة النظام العربي الجريح. وهذا ما يمكن أن يضع مصير الأقليات الدينية في لبنان وجوار لبنان في مهب الريح.