«انحناءة».. «إيماءة»!

TT

لا تزال بعض الصحف والبرامج التلفزيونية والإذاعية والمواقع الإلكترونية المحسوبة على الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة الأمريكية تتحدث عن انحناءة الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمام خادم الحرمين الشريفين خلال لقاء الاثنين ضمن فعاليات قمة العشرين الأخيرة بالعاصمة البريطانية لندن. وتراوحت التفسيرات لهذه الانحناءة في اتجاهات مختلفة، ولكن جميعها يمكن حصرها بين السخيف والأسخف. وكثير من هذه «التفسيرات» يربط بين «انحناءة» أوباما واسم أبيه (حسين) وأصوله المسلمة، وطبعا كون المنحنى أمامه شخصا بقامة خادم الحرمين الشريفين وما يحمله من قيمة ورمزية في العالم الإسلامي. وبدون الخوض في نوعية التفسيرات وما قيل فيها، يمكن القول إن هذا الموقف يبين الحال المزري والمريض الذي وصل إليه حال اليمين الأمريكي المتطرف، والذي لا يزال متخبطا منذ هزيمة حزبه في انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة، ووصول أوباما، وفضيحة الخسائر المالية المهولة التي انفجرت في الأيام الأخيرة لإدارة بوش مع عدم إغفال كوارث الحرب على العراق ومأساة كاترينا وغيرهما من الإخفاقات المزرية. ومع هذه الهزة الكبرى في الحزب، بدا من الواضح أن أعضاءه وصل بهم الحال من اليأس أن يبدأوا بنسج تفاسير وخطط وأوهام خيالية على أوباما نفسه وفريقه وسياساته، وإحقاقا للحق وتوضيحا للواقع «فالانحناءة» التي قام بها «أوباما» هي جزء بسيط من المراسم التقليدية التي تتم في حضرة الملوك، وهو انحنى للملكة البريطانية إليزابيث دون إثارة للضجة والتعليقات المريبة والخبيثة. وبالعودة للتاريخ، يمكن ذكر حالة مهمة تاريخية لا ينساها الأمريكان ولا من هم لهم شغف بدراسة أهم الأحداث. بعد انتهاء المعارك العسكرية الكبرى في المحيط الهادي خلال الحرب العالمية الثانية، وهزيمة اليابان واستسلامها بعد إلقاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي، التقى قائد قوات التحالف بالمحيط الهادي الجنرال ماكارثر الإمبراطور الياباني ميروهيتو على متن إحدى المدمرات البحرية الأمريكية ليوقع معه على وثيقة الاستسلام ويملي عليه الشروط «الجديدة» ليستمر فيها حاكما لليابان، وسط كل هذا المشهد انحنى القائد الأمريكي للإمبراطور الياباني كتحية احترام في موقف جلل كبير، ومع ذلك لم تحدث كل هذه الضجة السخيفة والمسعورة. وهذه المرة تظهر «نوعية» المعارضة التي سيواجهها باراك أوباما داخل بلاده، فهو اليوم لم يكمل فترة المائة يوم في الحكم، الفترة التي تحولت لوسيلة قياس أداء فعالية الإدارة والرئيس ومدى واقعية ومنطقية أهدافه وتوجهاته. أوباما وضع قائمة من الأسماء اللافتة لقيادة أهم المناصب الإدارية في فترة رئاسته، واتبع أسلوبا دقيقا غير مسبوق في اختيار أفراده ومراقبة أدائهم السابق وتحليله حتى يكون جديرا بالمنصب المختار له. ولكن من المهم جدا الإشارة إلى أن الوزارات كلها بها عدد غير بسيط من الكوادر البشرية المحسوبة على العهد القديم، وبالتالي متأثرين تماما بالأفكار والأيديولوجيات المتطرفة التي كانت عليها الإدارة السابقة، وعليه فلن تكون «مرتاحة» للتغيير الجذري في سياسات الحزب على الإرهاب والتعاون مع المجتمع الدولي والانفتاح على العالم العربي والإسلامي بشكل جديد وغير مسبوق، وبالتالي من الممكن توقع «المنغصات» بينه وبين بعض كوادر إدارته كما يحدث في حالات الطوارئ والأزمات (شوهد هذا بشكل مريب عقب حادثة إطلاق النار التي حدثت مؤخرا في نيويورك)، وردود الفعل التي كانت «تحاول» أن تثبتها على تنظيم القاعدة وسط رحلة أوباما لتركيا وكلمته للعالم الإسلامي. بذور التشنج والتطرف لها أشكال مختلفة، منها المسلح، ومنها الهاوي للعنف، وكلها تؤدي للنتائج ذاتها. من المبكر الحكم على باراك أوباما الآن، ولكن من المهم «تفهم» الوضع الذي يواجهه، والتحديات الواقعة عليه.