عرق الآباء.. عطر الأيام

TT

في كتابي «16 حكاية من الحارة»، و«ساعة الحائط تدق مرتين» ـ اللذين صدرا قبل سنوات ـ حاولت أن التقط نماذج مختلفة من قاع المدينة، وتقديمها كشخوص حكائية لأناس لم يتعود التاريخ أن يتوقف لذكرهم أمثال: حميد الحلواني، ومزوق الأخرس، والعم محمود بائع المساويك، باعتبار أن كبرياء التاريخ تمنعه من التسكع في الأزقة والحواري، والاهتمام بغير الأعيان، وقد آثرت أن أهدي الكتابين إلى هؤلاء البسطاء، متعمدا أن أكتبهما بلغة بسيطة لعلها تتمكن من الوصول إلى من تستهدفهم تلك الحكايات.

ومن تلك الحكايات ثمة حكاية بعنوان «ولد حارة»، تروي كفاح «أبو العيس»، سائق التاكسي البسيط، وكده، وتعبه من أجل توفير كل الظروف المناسبة لأخيه الأصغر لكي يواصل دراسته العليا، وحينما تخرج ذلك الأخ أصبح يشعر بالحرج من أخيه سائق التاكسي، ويمارس الكثير من نظرات الاستعلاء عليه، فلم يجد سائق التاكسي البسيط ما يفعله في مواجهة جحود أخيه سوى أن يخط على سيارته عبارة: «أبو العيس صانع الدكاترة».

وحال «أبو العيس» كحال بعض الآباء الذين حصدوا الريح في صراع الأجيال، حينما تناسى بعض الجيل الجديد حقيقة أن الأيدي الخشنة هي التي صنعت لنا العيش الطري، وأن آباءنا الذين لم يتعلموا هم الذين صنعوا منا المهندس، والطبيب، والاقتصادي، والعالم، والكاتب، والأديب، ولولا هؤلاء لكنا عند نقطة البدء حائرين.

تتملكني تلك الصور عند كل موقف عقوق أسمع عنه، أو مظهر استعلاء أستشعره من أحد تجاه أهله وذويه، ويمتد هذا الشعور إلى الصراع الذي يحدث بين الأجيال في ساحة الأدب أو الإعلام، ومختلف الساحات، حينما يحاول البعض من الجيل الجديد إسقاط حقيقة أن كل جيل جاء من رحم الجيل الذي سبقه، وأن لكل جيل إسهاماته في سياق الزمن الذي عاشه، فالتطور عبر الأجيال يخضع لقانون التواصل لا القطيعة.

وكما يخطئ الكبار حينما يظنون أنهم يحتكرون الصواب المطلق، يتوهم الشباب أيضا حينما يظنون أنهم نبت لا علاقة لتطوره بجذره، فسيبقى عرق آبائنا في تلك الأزمنة الخوالي يشكل عطر أيامنا المعاصرة، وتعبهم ينسج ثياب راحتنا.

فليرحم الله الأحياء منهم والأموات.

[email protected]