«لوجستيات» تاجر الشنطة «الإلهي»

TT

«logistics» تعني في الأصل «فن الحساب». ثم دخلت الكلمة حقل الاستراتيجية العسكرية، لتغدو مقتصرة على «تموين» القوات المسلحة، خصوصا في ميادين القتال. حتى الشيخ حسن حزب الله يستخدم اللوجستية. ها هو يعترف بأنه أوفد «مجاهدا لوجستيا» لفتح معبر رفح أمام اللوجستيات الإيرانية.

بمناسبة شيوع اللوجستية، كلما شاهدت السيد حسن على الشاشة، هالني شكله اللوجستي. فقد تجاوز حجم صاروخ «غراد»، ليصبح في حجم ووزن صاروخ باليستي إيراني (عابر للقارات). وكلما شاهدت المسكين الرئيس نجاد، اقتنعت بأن لا عدالة لوجستية في هذا العالم. أعتقد بأن الشيخ حسن عليه إمداد الرئيس نجاد فورا، بوجبة «كتاكيت» لوجستية، من تلك التي يلتهمها في مخبئه السري.

لا أدري ما إذا كان الأستاذ هيكل الذي التقى الشيخ حسن في مخبئه، قد حذره من خطر «الكتاكيت» اللوجستية على صحة وسلامة القضية الجهادية. أم كان اللقاء مجرد نكاية لوجستية بنظام الرئيس مبارك الذي يعاني المرارة من المزايدات اللوجستية الإيرانية والعربية عليه. على أية حال، الأستاذ هيكل استأذن بالاعتذار قبل الانصراف، بأن اللقاء تم قبل انفجار قضية تاجر الشنطة اللوجستية سامي شهاب الذي ضاع في صحراء التيه المصرية، وهو يجاهد لإيصال ما فيها من «كراكيب» إلى الزهار وهنية، عبر أنفاق رفح اللوجستية.

السيد حسن ينفي رغبته في القيام بعمليات «لوجستية» في مصر. لماذا إذن يوفد رجلا يتصرف كرجل مخابرات، متخفيا في إهاب تاجر شنطة لوجستي؟ لماذا جند كل هذا العدد الضخم من المصريين والفلسطينيين (حسن يعترف بتجنيد عشرة لوجستيين فقط)؟ لماذا وثائق السفر المزورة؟ لماذا الوعود بإعادتهم إلى مصر بعد تدريبهم اللوجستي في الخارج؟

في ظهوره على الشاشة، كانت نبرة السيد حسن هادئة. لكن رده السريع على مصر، دليل على مرارته هو أيضا. دليل على انزعاجه من قدرة أجندة الأمن المصرية، على ملاحقة وضبط تاجر الشنطة. بين النفي والاعتراف، يتناقض منطق حزب الله. واضح أن «التموين اللوجستي» لغزة كان تغطية وتسترا على المهمة الأصلية، وهي اختراق أمن مصر، وهز استقرارها في فترة من أصعب الفترات التي تمر بها.

ما زال الإجراء المصري، إلى الآن، في حدوده القضائية الصرفة. القضاء هو الذي يحقق ويتهم. هذا دليل على جدية الاتهام، وليس على تسييسه. كانت سابقا الأجندة الأمنية هي التي تحقق، والأجهزة السياسية تتهم. يبقى على القضاء المصري الذي يتمتع باستقلالية معقولة أن يفصل في القضية نفيا أو تأكيدا. وهذا ضمان واقعي لكلماتهم. الحكم لا يصدر هذه المرة قبل الإدانة، أو على مجرد الشبهة.

النيابة لم تتهم إيران، لكن الدلائل والسوابق تشير إلى مدى توتر العلاقة بين مصر وإيران، على مدي السنوات الثلاثين الأخيرة. بدأت الحكاية بحادث غير متعمد. شاء الرئيس السادات في إحدى إلهاماته الغريزية، أن يؤوي ويدفن شاه إيران المخلوع والمريض عنده في مصر. مصر بلد الأمان. مصر تؤوي عشرات ألوف اللاجئين السياسيين وملايين الأشقاء المنفيين والمهاجرين.

قطع الخميني العلاقة مع مصر مشترطا هدم ضريح الشاه. عندما مات السادات (1984) صعَّد الخميني شروط إعادة العلاقات مطالبا بهدم صلح الكامب، وأطلق اسم خالد الإسلامبولي قاتل السادات على أحد شوارع طهران. السادات آوى الشاه. لكنه لم يشطب اسم الدكتور محمد مصدق. ما زال أحد شوارع منطقة الدقي يحمل اسم مفجر ثورة النفط الإيرانية.

حقدت إيران الخميني على مصر مبارك. اعتبرت مصر خطرا على نفوذها الخليجي. مبارك لم يكن على علاقة طيبة مع صدام. لكن مصر قامت بدعم وإسناد العراق لوجستيا خلال حربه مع إيران. عندما تحول الخميني إلى هجومه إلى اختراق العراق، بحجة الوصول إلى القدس، هبت مصر والعرب للدفاع عن عروبة العراق. قدم قادة حرب أكتوبر خبرتهم وتجربتهم في الطيران واجتياز المعابر والموانع.

تطوع ألوف المصريين في القتال. مات ألوف. أُسر ألوف. ظلوا في أسر إيران أكثر من عشر سنين.

كانت مصر وإيران، في الاقتراب والابتعاد، مثالا على العلاقة غير المتوقعة في تقلبها، في منطقة مضطربة. عودة مبارك بمصر إلى العرب، وانفتاحه على الخليج، وتبنّيه قضية الجزر الإماراتية التي تحتلها إيران، ثم بناؤه مع السعودية علاقة ثنائية حميمة وحامية للمصالح القومية، كل ذلك أثار غضب إيران، ونقمتها العارمة على مصر.

سودان الترابي سهَّل على إيران محاولة اختراق مصر. وصل الأمر إلى حدود محاولة اغتيال مبارك في إثيوبيا، ثم رئيس حكومته عاطف صدقي (1994). فتح الترابي السودان أمام شبكات العنف الإيرانية. بل قيل إن وحدات إيرانية رابطت في السودان. كان انكفاء الترابي ضربة لإيران، لكنها استمرت في تهريب السلاح عبر السودان.

في عصر خاتمي، تحسنت العلاقة. لكن حيل بينه وبين الارتقاء بها إلى علاقة دبلوماسية طبيعية. بعد انتهاء ولايته، نشطت شبكات الاختراق. وصلت في عام 2005 إلى التخطيط مجددا لاغتيال مبارك بمراقبة تنقلاته في القاهرة وشرم الشيخ. أدين ضابط الحرس الثوري محمد رضا دوست بالسجن غيابيا. لكن عميله المصري محمد عيد دبوس ما زال سجينا. كان في حيثيات الإدانة تكليف المخابرات الإيرانية له، بجمع معلومات عن منشآت نفطية وصناعية سعودية لتدميرها «عند اللزوم»، وبالقيام بعمليات تؤدي إلى «خربطة» العلاقة بين السعودية ومصر.

أستطيع أن أعود بهذا الحقد الناقم على دور مصر القومي والخليجي إلى منتصف الثمانينات. راحت المخابرات الإيرانية تتصل بتنظيمات الأصولية الجهادية المصرية. تمّ تشييع بعضهم. شكلت إيران خلايا مخصصة للعمل في مصر شارك فيها حزب الله اللبناني، وقام بتمويل بعضها أثرياء شيعة خليجيون.ودُرّب أفراد هذه الخلايا في إيران ولبنان والسودان وقبرص وسورية.

لماذا مصر والسعودية مستهدفتان الآن؟

لأنهما خط الدفاع القومي الوحيد أمام الاختراق الإيراني، بعد سقوط العراق. يشن عرب إيران الهجوم لتدمير مبادرة السلام السعودية، فيما تتظاهر إيران بأنها ليست ضد الإرادة العربية. ويتم تجنيد كتاب وصحافيين وصحف، لشن حملة الافتراءات ضد البلدين.

إيران تعتبر الفرصة مواتية لتركيز الهجوم على مصر، وإنكار غيرتها على الفلسطينيين، ظنا أن بالإمكان تدمير خط الدفاع السعودي/المصري عن العروبة والمصالح القومية، ولإجبار مصر على التخلف عن التزاماتها الدولية، بل ربما توريطها في حرب إقليمية. المحزن أن الشارع العربي لا يدرك أبعاد المخطط الذي يستهدف الأمة العربية.

أصبح تدمير لبنان والتضحية بحياة 1200 لبناني دُفنوا تحت الأنقاض بلا حماية، نصرا «إلهيا». أصبح مقتل 1300 فلسطيني تحت الأنقاض في غزة، لم تقاتل حماس للدفاع عنهم (42 قتيلا حماسيا فقط) حجة للتعمية والعبث، بإرسال تاجر شنطة «إلهية» لإمداد غزة بصواريخ التنك اللوجستية، كبديل عن تنظيم وتوحيد النضال السياسي المشروع، وكسبيل وحيد لاستعادة الحق والأرض، ولكسب احترام وتأييد العالم كله.