أوباما في مواجهة المراوغين

TT

كانت المهمة الكبرى أمام الرئيس أوباما خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده مؤخرا ليس في الدفاع عن وزير الخزانة تيم غيتنر أو العمل على تنحية أسلوب تعامل الإدارة الأخرق مع مسألة العلاوات التي صرفتها مؤسسة «أميركان إنترناشونال غروب»، وإنما في تحدي التوجه الذي اعتادته واشنطن، القائم على تجنب تناول القضايا الجوهرية عبر تحويلها إلى مجرد مسائل إجرائية.

ويبدو أن النخبة السياسية في واشنطن تشهد نقاشا مكثفا في الوقت الراهن يدور حول اعتقاد البعض بأن أوباما يأخذ على عاتقه مهام تفوق قدراته، وأنه يثقل عاتق النظام «بأعباء مفرطة» ويتعامل مع كافة أنماط «القضايا الهامشية»، في وقت يتعين عليه قصر اهتمامه على الاقتصاد المتهاوي. كما يرى البعض أن أوباما يحمل الكونغرس قدرا مفرطا من الأعباء.

وعليك الانتباه إلى أنه ليس هناك من مؤيدي هذه الآراء من ذكر بالتفصيل أية مشكلات محددة يقترح أوباما تحمل مسؤولية التعامل معها. في الواقع إن الإصرار على أن الاقتصاد له الأولوية الأولى قبل أي أمر آخر يعني الاقتراح بعدم الإدلاء بأي تصريحات فيما يخص قضايا إصلاح نظام الرعاية الصحية والطاقة والتعليم والضرائب. وهنا تحديدا تكمن السمة المميزة لهذا النقد، وهي أنه من الأسهل بكثير التحدث عن نظام محمل بأعباء مفرطة عن مخاطبة أولئك المفتقدين إلى تأمين صحي وإخبارهم بأنه يتعين عليهم الانتظار لبضع سنوات أخرى للحصول على تأمين، أو التحلي بالصدق بالكشف عن أن تحقيق توازن بالميزانية على المدى الطويل يستلزم زيادة الضرائب. ومن الأسهل بكثير استغلال الأزمة الاقتصادية كذريعة تبرر عدم التحرك عن الدفاع عن الوضع القائم.

جدير بالذكر أنه كلما مر وقت على الفوز الانتخابي الذي أحرزه أوباما في نوفمبر (تشرين الثاني)، زاد ضعف قدرته على تنفيذ الوعود التي أعلنها، ذلك أنه بحلول العام القادم، سيتحول الاهتمام إلى انتخابات التجديد النصفي.

والمؤكد أن الصفعة التي منيت بها الإدارة في تعاملها مع «أميركان إنترناشونال غروب» والتقرير المظلم الصادر عن مكتب شؤون الميزانية التابع للكونغرس الجمعة الماضي، وتضمن توقعا بأن يتجاوز العجز في الميزانية خلال العام الجاري 1.8 تريليون دولار، من شأنهما تعزيز موقف قوى المراوغة.

تكمن مشكلة أوباما الكبرى في التعامل مع قضية العلاوات التي صرفتها «أميركان إنترناشونال غروب» في أن إدارته تحدثت بأصوات عدة. في بداية الأمر، راودت كبار مسؤولي الإدارة الرغبة في الدفاع عن قرار صرف العلاوات باعتباره شرا لا بد منه. ثم أدرك أوباما أن الأمر برمته يهدد مجمل خطته لإنقاذ القطاع المصرفي، وعليه، تحول إلى قيادة الأصوات المنددة بالقرار.

وأعرب مسؤولو الإدارة الذين تحدثت إليهم عن مشاعر خيبة أمل عميقة حيال هيمنة أنباء «أميركان إنترناشونال غروب» على وسائل الإعلام وأجندة الكونغرس. في الواقع، تتسم وسائل الإعلام والكونغرس بطبيعة متقلبة. إلا أنه كان يتعين على الإدارة التي أولت جزءا كبيرا من خطاباتها إلى الحاجة لإصلاح «فقاعة» الاقتصاد غير العادلة إدراك أنها ستعاني بشدة إذا ما بدت متواطئة في تسيير نشاطات تجارية على النحو الذي اعتادته وول ستريت. في الحقيقة، بدا الأمر كما لو أن اليد اليمنى للإدارة (وزارة الخزانة) لم تعلم بما تفعله اليسرى (جميع المسؤولين الآخرين تقريبا).

ثم جاءت الأنباء السيئة المتعلقة بتفاقم العجوزات. ولم يكن تقرير مكتب شؤون الميزانية التابع للكونغرس بمثابة مفاجأة، حيث كان الجميع على علم بأن الاقتصاد المتردي سيسحق العائدات الحكومية. وجاءت الأرقام الجديدة المفزعة لتمد المراوغين بمزيد من الأسباب لخلق عوائق أمام برنامج أوباما.

على المدى القصير، من شأن هذا التقرير تعزيز الضغوط الرامية لخفض الميزانية التي اقترحها أوباما لعام 2010. بيد أن إجراءات الخفض ستتسم بتواضعها وطابعها الرمزي، وسترتبط غالبا بالإنفاقات الداخلية التقديرية، بعيدا عن مجالات الدفاع والأمن الاجتماعي والرعاية الصحية. في الواقع، تنفيذ إجراءات الخفض تلك في الوقت الراهن سيسفر عن إلحاق الضعف بالجهود الرامية لتحفيز الاقتصاد، الأمر الذي سيتسم بالغباء لا شك. من ناحيتهم، يبدو كبار مسؤولي إدارة أوباما المعنيين بالميزانية على ثقة من قدرتهم على التعامل مع هذه المشكلة. أما التحدي الأكبر الذي يجابه أوباما فيكمن في التصدي لسياسات المراوغة التي يروج لها الراغبون في إرجاء إصلاح نظام الرعاية الصحية وجهود ترشيد استهلاك الطاقة وتوسيع نطاق فرص التعليم لأجل غير مسمى. وبالفعل، أشار معاونو أوباما إلى أنه سيطرح ضرورة الاختيار بين «التصدي للتحديات المستقبلية أمام بلادنا»، أو الاكتفاء «بغض أبصارنا والتخبط»، حسب تعبير أحد كبار مساعديه.

ومن شأن خطة الإنقاذ المصرفية التخفيف من حدة الضغوط التي يتعرض لها الرئيس، لأنه بذلك سيقدم ما طالب به الكثيرون. لكن الجدال الدائر حول الخطة وتكلفتها سيجري استغلاله بالتأكيد كذريعة للمطالبة بإرجاء التحرك حيال باقي القضايا في أجندة أوباما.

وبغض النظر عن الاستراتيجية الخطابية التي سينتهجها الرئيس، فإن عبء الحجة ينبغي أن يكون على عاتق أولئك الذين يصرون على أن الحكومة عاجزة عن إصلاح القطاع المصرفي ونظام الرعاية الصحية في ذات الوقت.

من جهته، يعكف الكونغرس حاليا على وضع قانون للرعاية الصحية، وليس هناك ما يحول دون تمريره بحلول أواخر الصيف أو الخريف. والمؤكد أنه ليس هناك ما يبرر تراجع الحكومة عن الاضطلاع بمسؤوليتها تجاه قطاع التعليم، في الوقت الذي يمكن اتخاذ بعض الخطوات الأولية، على الأقل، على صعيد قضايا الطاقة والبيئة.

حسب علمنا، وعد أوباما بإحداث تغيير يمكننا الوثوق به. وتمثل الفعل الذي قام عليه هذا الشعار في «يثق». والآن، تتمثل مهمته في استعادة الثقة في أن ما كان يحلم به ما زال يمكن إنجازه.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»